تطرح الهجمات المتصاعدة والمستمرة على حيفا من قبل فصائل المقاومة في لبنان، تساؤلات ملحّة حول هذه المدينة التي أضحت هدفًا هامًّا جدًّا لحزب الله، إذ أصبحت سماؤها لا تخلو من مشهد المسيّرات المفخخة والصواريخ، وأصبحت هذه المسيّرات جزءًا من حياة المستوطنين، مما يدفعهم إلى التساؤل: لماذا حيفا؟ ما الذي يجعلها هدفًا استراتيجيًّا في هذا الصراع؟
لعل الإجابة تقبع فيما تحتويه حيفا من مخازن للطاقة والأمونيوم والصناعات الكيميائية، إذ تحتضن العديد من المصانع والشركات التي تؤدي دورًا أساسيًّا في الاقتصاد، كما أن ميناء حيفا يعد شريان الحياة للصادرات والواردات من مختلف الدول، وهذا يعكس حالة القلق التي تعيشها الحكومة الصهيونية، ويبرز في طلب الاستغاثة الذي أطلقه رئيس بلدية حيفا، مطالبًا بإخلاء المصانع الكيميائية المهددة بالهجمات.
ارتفع مؤشر القلق في الساعات الماضية، وأصبحت خيارات الجيش الإسرائيلي واليمين المتطرف في التعامل مع صواريخ حزب الله ومسيّراته أكثر صعوبة، ولا سيما بعد التفجير المزدوج الذي وقع في قاعدة للواء غولاني جنوب حيفا وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 4 جنود وإصابة العشرات، والذي وصفه الجيش الإسرائيلي بأنه الأكثر دموية منذ تصاعد الصراع مع حزب الله.
بعد هذا الحدث، تواجه إسرائيل الآن خيارين أحلاهما مرّ. الخيار الأول يتمثل في إخلاء تدريجي لمصانع حيفا، وهو ما يعني أن المقاومة نجحت في تحقيق أهدافها في توسيع نطاق التأثير والتهجير.
أما الخيار الثاني فهو الاستسلام للأمر الواقع الذي يرتهن إلى الحظ في أن لا تمس المسيّرات تلك المصانع الحساسة، ورفع منظومة وجاهزية القبة الحديدية والمراقبة، تلك التي خيبت آمال الجيش والمستوطنين أكثر من مرة لفشلها في اعتراض العشرات من المسيّرات والصواريخ، ولا سيما بعد أن أدّى “الهدهد” اللبناني دورًا هامًّا في اختراق المجال الجوي وتصوير العديد من الأماكن الحساسة سواء في تل أبيب أو حيفا، ليعود بالخبر اليقين.
أمر آخر قد يجيب أيضا عن سؤال لماذا حيفا؟ يكمن في موقعها الجغرافي بالنسبة للمقاومة اللبنانية، إذ تقع على الساحل الغربي لفلسطين المحتلة، على بُعد 40 كيلومترًا من الحدود اللبنانية؛ مما يجعلها في متناول صواريخ المقاومة. وهو الأمر الذي لم يغفله حزب الله، فالتقارير تشير إلى أن معدل الصواريخ التي تطلق على حيفا يصل يوميًّا إلى 100 صاروخ، وهو ما يعكس تركيز التخطيط الاستراتيجي للمقاومة، التي تستفيد من مخزونها بشكل مدروس.
تغيير في ميزان القوى
الهجوم الأخير الذي استهدف معسكر تدريب تابعًا للواء غولاني في بنيامينا جنوب حيفا يعد من أبرز الأمثلة على قدرة حزب الله على تنفيذ هجمات عسكرية معقدة وتحقيق أهداف استراتيجية. الهجوم المفاجئ الذي شكل صدمة كبيرة لدى القادة الإسرائيليين، يبرز كيف استطاعت المقاومة تجاوز الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية المتطورة، ويثبت أن الواقع العسكري على الأرض مختلف تمامًا عما كانت تتوقعه القيادات الإسرائيلية، ولا سيما بعد أن اعتقدت أن اغتيال القيادات البارزة في حزب الله سيقوض ويضعف قدرة الحزب على التصدي والهجوم.
لا شك أن هجمات من هذا النوع تضعف من هيبة الجيش الإسرائيلي، خاصة عندما تستهدف وحدات النخبة مثل لواء غولاني، الذي يُعتبر أحد أبرز وأهم الوحدات في الجيش الإسرائيلي. ولعل التفوق الذي يسجل للمقاومة اللبنانية ومعها العراقية أيضا، يتمثل في استخدام المسيّرات الدقيقة، فكلما زادت دقة هذه الهجمات، أصبحت إسرائيل أكثر هشاشة أمام هذه التهديدات الجديدة؛ مما يجعل من الصعب على إسرائيل تحقيق “الاستقرار” في شمالها كما يزعم نتنياهو.
توسيع دائرة التهجير
وفي الوقت الذي يبرر فيه نتنياهو الهجمات العنيفة على لبنان بأنه يسعى لإعادة تسكين المستوطنين في الشمال والمناطق الحدودية واستعادة الاستقرار في هذه المناطق، تتخذ المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله هدفًا معاكسًا. فهي تسعى إلى تهجير مزيد من المستوطنين الإسرائيليين، ليشمل ذلك مدينة حيفا، ضن استراتيجية تهدف إلى تقويض سيطرة إسرائيل على المنطقة.
ومنذ بدء التصعيد الأخير، تضاعفت الهجمات الصاروخية من جانب المقاومة اللبنانية على المناطق الشمالية؛ مما أدى إلى حالة من الذعر والقلق بين المستوطنين، وبدلًا من أن يعود المستوطنون إلى ديارهم كما يأمل نتنياهو، يتزايد عدد الذين يفرون من مناطق القصف، لتشمل موجة النزوح مناطق أبعد مثل حيفا.
المؤكد أن الأحداث الأخيرة أتثبت فشل إسرائيل في فرض سيطرتها بالقوة العسكرية على المقاومة اللبنانية، في الوقت الذي أظهرت فيه المقاومة امتلاكها الأدوات والقدرة على تحدي هذه السيطرة وتوجيه ضربات مؤلمة في العمق الفلسطيني المحتل.
ذاكرة النكبة
لا شك أن حيفا تصدرت خلال الشهور الأخيرة، عناوين نشرات الأخبار، تلك المدينة التي كان المستوطنون والجيش يظنون أنها خارج حسابات المقاومة، وربما الأكثر أمانا في المدن المحتلة، فلم يضع المحتل في حساباته أن أيادي المقاومة ستصل إلى مناطق أكثر عمقا في الداخل المحتل.
ومع تصدر حيفا المشهد من جديد، تتجدد في الأذهان ذكرى النكبة المؤلمة. إذ شهدت تلك المدينة عام 1948 تهجيرًا جماعيًّا لأكثر من 70 ألف فلسطيني، حيث ارتكبت فيها مجازر وحشية فاقت في فظاعتها كثيرًا من جرائم الحروب الحديثة. الناجون من تلك المجازر فرّوا عبر البحر إلى لبنان، ليصبحوا هم وأحفادهم لاجئين في المخيمات الفلسطينية، يعيشون جراح الماضي وآمال العودة.
واليوم، ومع تغير الموازين في الصراع، يبرز تساؤل عميق: هل يشهد التاريخ انعكاسًا مفاجئًا؟ وهل يصبح مستوطنو حيفا الذين اعتقدوا أنهم استقروا في هذه الأرض، لاجئين يبحثون عن مأوى كما حدث لأصحابها الأصليين؟