بقلم : أشرف الشربيني

 

(الوطنية) هي الروح التي تجمع الشتات وتُلهم الجموع وتحمي المقدسات، وبغيرها تنهار المجتمعات وتُخترق الأوطان، وهي أول ما يستهدفها العدو ويدافع عنها حُماة البلاد، فتفكيكها وعدمها في الضرر سواء.

 

نشأت (الوطنية المصرية) مشبَّعة بروح الإسلام وعقيدة الجهاد والاستشهاد، فكانت حاضرةً حين هزم المصريون الغزاة الفرنسيين (1798-1801)، والغزاة الإنجليز في (1807)، وأشعل لهيبُها الثورةَ في صدور المصريين وزعمائهم من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى أحمد عرابي وعبد الله النديم، إلى أن تُوِّجت على يد مصطفى كامل بتأسيس (الحزب الوطني)، فجمع بين الانتماء للأمة (الدعوة إلى الجامعة الإسلامية) والانتماء للوطن (الدعوة إلى الاستقلال)، فكان بحق كما قال عبد الرحمن الرافعي: (إنَّ لجهاد مصطفى كامل ومحمد فريد وأنصارهما، أثر كبير في قيام ثورة 1919، بما غرسوا في النفوس من الدعوة إلى الجهاد الخالص لله وللوطن).

 

وقد تنبهت البعثات التبشيرية لطبيعة (الوطنية المصرية)، فأكدت في تقريرها عن ثورة 1919 على (وجود ارتباط كبير بين الدين والدولة في الحركة الوطنية.. وأن هذه المفاهيم سائدة بين العامة وبين المثقفين والمتعلمين.. وكانت بعض شعارات الثورة تنادي بأن الجحيم مع الأتراك أفضل من الجنة مع المسيحين الإنجليز).

 

كما تنبه الاحتلال الإنجليزي لهذه الخصوصية، فحين بدأت الحرب العالمية الأولى طالب بعض السياسيين كأحمد لطفي السيد بإعلان استقلال مصر إن دخلت تركيا الحرب مع ألمانيا، فقال المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية المصرية: (يا صاحبي نحن نعرفكم كما تعرفون أنفسكم، فحين ظهور أول طربوش تركي في القنال ستتركوننا وتجرون وراءه). وهكذا كان الجميع يدرك حقيقة مفهوم (الوطنية) عند المصريين وأثرها في إشعال ثوراتهم.

 

فمع مفتتح القرن العشرين كانت الثورة تدق الأبواب بعنف، فتم اغتيال بطرس غالي رئيس الوزراء في فبراير 1910، وأثناء التحقيقات تبين وجود 85 تنظيماً سرياً تابعين للحزب الوطني، وبعدها بعامين (1912) تعرَّض الخديوي عباس لمحاولة اغتيال، واتُهم فيها الزعيم محمد فريد والشيخ عبد العزيز جاويش بجريمة التحريض، وكان السبب في كلتا الحالتين التعاون مع الإنجليز، كما تعرَّض السلطان حسين لأكثر من محاولة اغتيال بسبب تعيينه من (دولة مسيحية)، وإحدى هذه المحاولات حين أقدم خدم القصر على محاولة إحراقه بمن فيه..

 

وأراد الاحتلال أن يقطع الطريق على ثورة بدت نذرها، فقام باعتقال وتشريد قادتها (المحتملين)، فوجه ضربات قوية للحزب الوطني وقادته وكوادره وتنظيماته، فاعتقل البعض ونفى البعض، كما أغلق صحفه وصادر مطبوعاته، وعلى الجانب الآخر قام بتقريب المطالبين بالاستقلال، ممن يقبلون بالمهادنة مع الانجليز..

 

ففي 18 مارس 1918 قابل سعد زغلول ورفاقه السير ونجت المعتمد البريطاني في مصر من أجل الاستقلال، وفيه قارن عبد العزيز فهمي في قضية الاستقلال بين طريقة الحزب الوطني (الشباب) وطريقة حزب الأمة (الشيوخ)! فالأخيرة – في نظره - أخف حِدَّةً! ولا يُظن بها تطرف! كما عرض سعد أن تكون قناة السويس تحت سيطرة الإنجليز في حالة نشوب حرب! وأن يكون لبريطانيا وضع خاص في مصر بعد الاستقلال!

 

كان سعد زغلول وزيراً للمعارف بوزارة مصطفى فهمي منذ 1906، وهو من عارض اقتراح الجمعية العمومية بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية بدلاً من الإنجليزية، مما دفع مصطفى كامل لمهاجمته.

 

 بينما طالب (الحزب الوطني) بالجلاء والاستقلال، بلا شروط أو تنازلات..

 

ومع اعتقال سعد زغلول ورفاقه، اشتعلت الثورة في البلاد، على غير رغبة منهم! حتى أن عبد العزيز فهمي نادى في الطلاب حين تظاهروا، بأن يخلدوا إلى الراحة والسكينة! إلا أنهم رفضوا الاستجابة له.

 

وكان الأزهر الشريف هو مركز الثورة ونقطة انطلاقها، وحين شكل المتظاهرون (البوليس الوطني) لحماية المظاهرات من اندساس الغوغاء، أُسندت رئاستها لأحد رجالات الأزهر الشيخ مصطفى القاياتي، مما دعا الاحتلال الانجليزي إلى اقتحامه..

 

ورغم النَفَس الإسلامي الواضح في الثورة ومقدماتها، إلا أن ضعف (تنظيم) التيار الإسلامي، انتهى بقيادة الثورة إلى سعد ورفاقه، لتبدأ بعدها الحقبة الليبرالية (1923-1952)، وتدخل البلاد في دوامة لا تنتهي من المفاوضات.

 

إلى أن بدأ نَفَس إسلامي جديد، يردُّ (الوطنية المصرية) إلى أصلها، حين قامت (جماعة الإخوان المسلمين) بمقاومة الاحتلال الإنجليزي في القناة عام 1951، مما كلَّف الإنجليز أثماناً باهظة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في رحلة الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال.

 

فالإسلام أصيل في تكوين (الوطنية المصرية)، ومحاولة نزع (الإسلام) منها، إفتئات على التاريخ وإنكار لما هو معلوم منه بالضرورة، واستجابة لخطة قديمة في صناعة (وطنية أليفة) تقبل بالمحتل وتتعايش معه!