على الرغم من مرور 120 يومًا على حرب غزة، إلا أن أطفالها لم ييأسوا من الأوضاع الصعبة السائدة في القطاع، وظلوا يواجهون القهر والجوع والبرد والعتمة بإبداعاتٍ ورباطة جأش أذهلت العالم أجمع.

إلا أنه قيض لأطفال غزة أن يتحملوا ثقلًا غير عادي في حياتهم القصيرة. فأحدهم يبلغ من العمر 15 عامًا، عايش حتى الآن خمس حروب، بما فيها الصراع المستجد والمستمر. وبالنسبة إلى كثر آخرين، فإن الواقع المرير أجبرهم على النزوح مرات عدة بعد تعرض منازلهم للدمار بسبب القصف.

 

نيوتن غزة: حسام العطار – 15 عامًا

“نزحنا من منطقة بيت لاهيا إلى النصر، ومن ثم إلى خان يونس مشيًا على الأقدام، حتى انتهى بنا المطاف في المحجر برفح”، هي تفاصيل نكبة فلسطينية وتغريبة جديدة لم تتوقف فصولها منذ العام 1948، يرويها “عبقري فلسطيني”، أو من عرف بأوساط مخيمات النزوح بـ”نيوتن غزة” (نسبة إلى المخترع والمكتشف إسحاق نيوتن).

يشار إلى أن العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، أدى إلى ارتقاء أكثر من "27 ألفًا و238 شهيدًا و66 ألفًا و452 مصابًا"، معظمهم أطفال ونساء"، إلى جانب نزوح أكثر من 85 بالمئة (نحو 1.9 مليون شخص)، بحسب سلطات القطاع وهيئات ومنظمات أممية.

الطالب الفلسطيني، من مدرسة “جبل المكبر” شمالي غزة، حسام العطار، فجأة ودون سابق إنذار أصبح وعائلته دون مأوى، يقول: “نظرت إلى أبناء أخي التوأمين ووجدت الخوف في عينيهما، حيث وحشة ظلام وعتمة الخيمة، ففكرت أن أدخل السرور إليهما، وأنير لهما المكان”.

“قدحت فكرة الاستفادة من برودة الجو والهواء، الذي يتسلل في أجساد الأطفال لينهكه تعبًا ومرضًا، إلى تحويله مصدر دفء وحرارة”، وفق “نيوتن فلسطين”، الذي “استطاع رغم شح الإمكانيات، إنشاء مراوح تولد الكهرباء، ولو بالنزر اليسير، عبر توليد الطاقة عن طريق الهواء”، وفقًا لـ"قدس برس".

تقف والدة الطفل صاحب العينين الخضراوين، فخورة بما حققه نجلها، وتقول إن “موهبته ظهرت منذ الصغر، إذ كان يحب اللعب بكل ما يقع تحت يديه، ويصنع من لا شيء شيئًا يستفاد به، كما أن الأهالي يلجأون إليه لإصلاح أدواتهم الكهربائية”.

تتمنى والدة حسام أن تراه مخترعًا عظيمًا، يفيد مجتمعه وقضيته، وتقول: “هذا جيل فلسطيني لن يهزم، فهو يبحث عن الحياة من وسط الظلام والموت”.

يختم الطفل “العطار” ذو (15 عامًا) حديثه: ” أنا أحب الحياة، وأعشق تفاصيلها، أتمنى أن أكون مخترعًا ومكتشفًا، ولكن من المستحيل أن تموت فلسطين في داخلي”.

 

اليوتيوبر الواعدة: غنى الكرنز - 8 سنوات

كانت لدى الطفلة غنى رغبة شديدة في أن تصبح نجمة على "يوتيوب". وفي سن الثامنة، كانت تصور مقاطع فيديو تعكس روح الدعابة لديها والوقاحة والثقة التي تتمتع بها.

وفي أحد مقاطع الفيديو التي لم تنشره، تظهر وكأنها مذيعة متمرسة، تقدم لمشاهديها جولة ممتعة في منزلها. وكانت ترشدنا إلى المطبخ، حيث تعرض بفخر كعك الشوكولاتة الذي تصنعه والدتها، وهي الحلوى المفضلة لديها، وفقًا لـ"إندبندنت".

وبحسب عمها محمود الكرنز، فقد كانت غنى تنتج مثل هذه الفيديوهات بشكل دائم. ولدى رؤيتها الميكروفون، كانت تنتزعه بصبر نافد، تاركة الجميع في حال من الترقب في شأن وقت قد يستمعون فيه لأغنية منها أو لعرض تقديمي.

ويقول محمود: "كان لديها ذلك الشغف بتوثيق حياتها اليومية ومشاركة عالمها، وعرض أخواتها وإخوتها ومجموعتها من الألعاب. كان لديها كثير من الأحلام، لكنها كانت تطمح قبل أي شيء آخر، إلى أن تصبح من المستخدمين المشهورين لـ’يوتيوب‘ أو ربما تمارس مهنة الصحافة".

تألقت غنى بذكائها وبرز ذلك في إنجازاتها الأكاديمية، بحيث حصلت باستمرار على درجات عالية في المدرسة. وباعتبارها الأصغر بين أفراد أسرتها، فقد تمتعت باهتمام أقاربها، بينما جذبت شخصيتها النابضة بالحياة عددًا كبيرًا من الأصدقاء إليها. وارتبطت الفتاة الصغيرة بعلاقة وثيقة مع عماتها وأعمامها، مما أتاح لمحمود متسعًا من الوقت لتمضيته معها، ارتياد مركز السباحة المحلي، حيث علمها السباحة - وتسنى له قضاء أوقات مميزة برفقتها.

ويضيف عمها قائلًا: "كانت متعلقة بي للغاية، وكانت تناديني بـ’محمود بول‘ لأننا كنا دائمًا نسبح معًا".

كان لديها كثير من الأحلام، لكن الأهم من ذلك كله أنها أرادت أن تصبح من مستخدمي "يوتيوب" المشهورين أو ربما صحافية

فقدت غنى حياتها في غارة جوية إسرائيلية استهدفت المبنى الذي كانت تحتمي فيه مع أفراد أسرتها في رفح جنوب غزة، وذلك في الـ23 من أكتوبر. وتم نشر الخبر المفجع في البداية من جانب "شهداء غزة". وكانت الأسرة قد هربت من القصف في الشمال بحثًا عن الأمان. وبعد وفاة الطفلة المفاجئة، شاركت والدتها مع محمود التفاصيل المؤثرة لتلك اللحظات.

ويقول "أخبرتنا أن غنى كانت تسأل والدتها عما تناولوه على مائدة الغداء. لم يكن أفراد الأسرة يأكلون كل يوم، لأنه لم يكن هناك ما يكفي من طعام في غزة، لذا كانوا في بعض الأحيان يكتفون بتناول الشاي والبسكويت، فقد كانت تشعر بجوع كبير".

في ذلك اليوم المشؤوم، كانت والدة غنى تحضر إحدى الوجبات المفضلة لابنتها: وهي حساء الفاصولياء مع الطماطم. وقد أشارت غنى إليها بمودة باسم "الطعام الأحمر" بسبب لونها الأحمر الغامق. شعرت الطفلة بسعادة غامرة بتلك الوجبة. وبينما كانت والدتها تحرك الطعام في القدر على الموقد، قفزت غنى حولها وهي تصرخ بابتهاج: "طعام أحمر! طعام أحمر! طعام أحمر!".

ولم تمض سوى دقائق فقط، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة في غارة جوية أدت إلى انهيار المبنى. وعثر على جثتها تحت الأنقاض بعد 24 ساعة. وفيما حالف الحظ والدتها بالبقاء على قيد الحياة، إلا أن غنى ماتت جائعة.

 

عالم المستقبل: محمود عثمان - 14 سنة

كان محمود ابن عم عمر وغنى، يتمتع بذهنية مهندس. وقد دفعه فضوله إلى القيام بتفكيك ألعابه وأدواته المنزلية المختلفة وإعادة بنائها، مع شغف خاص بالإلكترونيات.

وسعيًا من محمود إلى تحقيق تطلعاته، كانت لديه رغبة قوية في السفر في المستقبل، مدفوعًا بهدف محدد وهو الحصول على أفضل تعليم ممكن. وقد دارت نقاشات مع عمه، واسمه أيضًا محمود وهو مقيم في تركيا، حول إمكانية سفره إلى هناك لمتابعة دراسته.

ويقول محمود: "كان يطلب مني مساعدته في العثور على جامعة جيدة له".

عندما اندلع النزاع، تولى محمود المسؤولية عن أسرته. وباعتباره الأخ الأكبر، فقد قام بذلك على أكمل وجه. وبعد توليه المسؤولية، تواصل مع عمه ليطمئنه إلى أنه سيعتني بوالديه خلال الظروف الصعبة.

ويقول عمه في هذا الإطار: "دعاني إلى عدم القلق عليهما. وقال إنهما آمنان، ويمكنني مساعدتهما في كل ما يحتاجان إليه. أرادني أن أطمئن إلى أن كل شيء على يسير على ما يرام".

إلا أن محمود قتل مع والدته وعمه وأجداده.