د. علي باكير
باحث ومحلل سياسي
المعلومات المضللة كانت ولا تزال عنصرًا مهمًّا في الحروب على مختلف أشكالها، لكن دور وأهمّية وتأثير "المعلومات المضللة" أصبح اليوم أكبر من أي وقت مضى ولا ينحصر فقط على التداعيات السياسية المحتملة أو محاولة تغيير وجهة نظر أو طريقة تفكير الشريحة المستهدفة من الناس في هذا الفريق أو ذلك، وإنما "للمعلومات المضللة" القدرة على أن تتسبب بكوارث حقيقية على أرض الواقع وأن تتسبّب بقتل الناس وأن تكون أداة لتشريع القتل وحماية القاتل وتبرير أفعاله الإجرامية تماما كما تفعل إسرائيل في غزّة.
وبشكل عام، تُعرف "المعلومات المضللة" على أنّها المعلومات الكاذبة التي يتم تعمّد اختلاقها ونشرها بقصد الخداع أو التضليل. وعادة ما يخلط البعض بين "المعلومات المضلّلة" و"المعلومات الخاطئة" في المضمون والاستخدام. لكن وبخلاف "المعلومات الخاطئة" التي يمكن أن تُنتشر عن غير قصد، تتميز المعلومات المضللة بطبيعتها المتعمدة وغالبًا ما تستخدم لتحقيق مكاسب استراتيجية أو سياسية أو مالية، ويكون استخدامها الأمثل وقت الاستحقاقات السياسية والحروب.
خلال العقدين الماضيين، وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ مفهوم "المعلومات المضلّلة" بالانتشار بشكل أكبر، لكن تمّ ربطه ببعض الفاعلين دون غيرهم على المستوى الدولي والإقليمي، حيث جرى ربط المفهوم بشكل كبير بدول مثل الصين وروسيا وإيران للقول بأنّ الدول غير الديمقراطية هي التي تلجأ الى سلاح "المعلومات المضلّلة".
لكنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على الفلسطينيين في غزّة وطبيعة تفاعل الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية مع هذه الحرب على المستوى الإعلامي ـ من بين مستويات أخرى ـ، يتغيّر اليوم من هذا المفهوم ويكسر الادعاء القائل بحصريّة الاستخدام من دول بعينها دون أخرى. المتابع للتغطية الإعلاميّة الأمريكية منذ 7 أكتوبر على الأقل، يستطيع أن يلاحظ أنّ وسائل الإعلام الامريكية تشن حربًا على الحقيقة وأنّ سلاح "التضليل الإعلامي" يلعب دورًا رئيسيًا في هذه الحرب.
تُعرّف وزارة الخارجية الأمريكية المعلومات المضللة بأنها معلومات كاذبة يتم نشرها عمدًا للتأثير على الرأي العام أو إخفاء الحقيقة. إنها شكل من أشكال الدعاية التي غالبا ما تستخدم لزرع الفتنة، وتقويض المؤسسات، وتعزيز الرسائل السلبية. يمكن أن تنتشر المعلومات المضللة من خلال مجموعة متنوعة من القنوات، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية والمنتديات عبر الإنترنت.
ويقول الرئيس الأمريكي جو بايدن "هناك حقيقة وهناك أكاذيب.. وكل واحد منا لديه واجب ومسؤولية.. للدفاع عن الحقيقة وهزيمة الأكاذيب..". يشير مركز التفاعل العالمي على صفحة وزارة الخارجية الأمريكية إلى أنّ "التضليل يُعدّ أحد أهم أسلحة الكرملين وأكثرها تأثيرها، وأنّ روسيا قامت بتفعيل مفهوم الخصومة والتنافس في بيئة المعلومات من خلال تشجيع تطوير نظام متكامل للتضليل والدعاية. يخلق هذا النظام التكامل وينشر روايات كاذبة لتعزيز أهداف سياسة الكرملين بشكل إستراتيجي. لا يوجد موضوع خارج حدود أكاذيب هذا النظام المتكامل. كل شيء، من حقوق الإنسان والسياسة البيئية إلى الاغتيالات وحملات القصف التي تقتل المدنيين، هي أهداف عادلة في قواعد اللعبة الخبيثة التي تمارسها روسيا".
ويتابع: "الحقيقة تنزع أسلحة التضليل الروسية. فالكرملين يخلق وينشر معلومات مضللة في محاولة لإرباك الناس وإغراقهم بالأكاذيب بشأن تصرفات روسيا الحقيقية... ولأن الحقيقة ليست في صالح الكرملين، فإن أجهزة الاستخبارات الروسية تنشئ وتكلف وتؤثر على مواقع إلكترونية تتظاهر بأنها منافذ إخبارية لنشر الأكاذيب وزرع الفتنة. إن التضليل هو وسيلة سريعة ورخيصة إلى حد ما لزعزعة استقرار المجتمعات وتمهيد الطريق لعمل عسكري محتمل. وعلى الرغم من تورطها في هذه الأنشطة الخبيثة مرات لا تحصى، إلا أن روسيا تواصل العمل بشكل يتعارض مع الأعراف الدولية والاستقرار العالمي".
كل ما عليك فعله هو استبدال روسيا بالولايات المتّحدة في هذا النص المنشور في على صفحة وزارة الخارجية الأمريكية، وسيبدو النص مطابقًا تمامًا لما تفعله الولايات المتّحدة اليوم إزاء الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزّة. الأكاذيب التي يتمّ الترويج لها لا قاع لبشاعتها ويتم صنعها والترويج لها من رأس الهرم ونزولا حتى القاعدة. لماذا؟ لأنّ النص أجاب على ذلك وقال أنّ الحقيقة لا تخدم البيت الأبيض ولا إسرائيل، ولذلك هناك حرب حقيقية على الحقيقة هدفها ليس صناعة السرديّة ـ المضلّلة ـ والترويج لها، وإنما احتكار عملية التصنيع ومن ثمّ نشر الأضاليل دون نهاية لتبرير المذابح الإجراميّة التي يتم ارتكابها من قبل إسرائيل وللسماح لها بالاستمرار في فعل ذلك بينما يتم التشويش على الرأي العام ومحاولة التأثير فيه وخداعه.
ما لا تأخذه الولايات المتّحدة اليوم بالحسبان هو أنّ اعتمادها بشكل شبه كلي على التضليل الإعلامي كوسيلة من وسائل دعم إسرائيل في الحرب على الفلسطينيين في غزّة سينعكس عليها غدا بالضرورة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحتى أمنيًّا، وسيكون من الصعب جدًا حينها عكس عقارب الساعة إلى الوراء.