ممدوح الولي
نقيب الصحفيين المصريين الأسبق


في اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى نشرت أستاذة العلوم السياسية الدكتورة إنشاد عز الدين صورة الشيخ أحد ياسين، وكتبت بجوارها “يا زين ما ربيت“، ومع استمرار صمود ثوار غزة وأهلها حوالي أربعة أسابيع حتى الآن، رغم القوة الإسرائيلية الغاشمة مدعومة بالتأييد العسكري والسياسي للولايات المتحدة والدول الغربية، وخذلان الدول العربية والإسلامية لها مكتفية بالتصريحات والمساعدات المحدودة، يتطلب الأمر التعرف على الحاضنة الشعبية الغزاوية وفرسانها وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ياسين الرجل المصاب بالشلل الرباعي منذ عامه السادس عشر، الذي كان يحرك صفحات الكتاب بلسانه بصعوبة، والذي تم سجنه وهو قعيد عدة مرات لمدد بلغت تسع سنوات ونصف، فقد خلالها إبصار العين اليمنى بعد ضربات عنيفة من المخابرات الإسرائيلية خلال سجنه، كما حدث ضعف شديد في إبصار العين اليسرى.


وتسببت ظروف السجن غير الآدمية في إصابته بحساسية في الرئتين والتهاب في الأذن وأعراض معوية، لتنهي إسرائيل حياته بقصف كرسيه المتحرك بصاروخ من طائرة وهو في الثامنة والستين من عمره بعد خروجه من أداء صلاة الفجر بالمسجد.


ولد أحمد ياسين عام 1936 بقرية شمال غزة، وتوفي والده وهو في الثالثة من عمره، وفي الثانية عشرة من عمره كانت نكبة 1948 التى دفعت العصابات الصهيونية خلالها السكان العرب إلى الهجرة من قراهم، فهاجرت الأسرة إلى غزة، واضطر إلى ترك الدراسة مدة عام لمعاونة أسرته البسيطة الحال بالعمل في محل لبيع الفول، وفي سنّ السادسة عشرة أصيب بشلل رباعي بعد مصارعة ودية له مع أحد زملائه.


 اعتقال مصري وإسرائيلي للشيخ


درس أحمد ياسين بجامعة الأزهر ليعمل بعد تخرجه مدرسا للغة العربية والتربية الإسلامية بمدارس وكالة غوث اللاجئين في غزة، وكان يجمع التلاميذ المتميزين ويوجههم إلى المساجد لإكمال دروسهم ويقيم لهم أنشطة ثقافية ورياضية واجتماعية، مع الاهتمام بالحفاظ على الصلاة والقرآن وصيام يومي الاثنين والخميس، قائلا “نحن واليهود في صراع على هذا الجيل فإما أن يأخذه اليهود، أو ننقذه من أيدي اليهود”.


ولنشاطه الدعوي اعتقلته السلطات المصرية عام 1954 التي كانت تتولى إدارة غزة حينذاك بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي عام 1965 اعتقلته المخابرات المصرية في غزة مدة شهر، حين صدر قرار مصري باعتقال كل من سبق اعتقاله عام 1954.


وفي عام 1984 اعتقلته إسرائيل وحكمت عليه بالسجن مدة 13 عاما، لكنه خرج بعد 11 شهرا بعملية تبادل للأسرى مع إحدى الفصائل الفلسطينية، وفى 1987 قام مع عدد من رفاقه بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وهو ما تزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي سميت انتفاضة المساجد والتي ساهم أحمد ياسين بقدر كبير في تأجيجها، وداهمت القوات الإسرائيلية منزله عام 1988 وهددته بالنفي إلى لبنان.


وفي عام 1989 اعتقلته السلطات الإسرائيلية وبعد 29 شهرا من الاعتقال حكمت عليه بالسجن مدى الحياة، لكن اعتقال عميلين للمخابرات الإسرائيلية حاولا تسميم خالد مشعل بالأردن تسببت في الإفراج عنه ضمن عملية تبادل عام 1997 بعد ثماني سنوات ونصف من السجن، ورغم إبعاده إلى الأردن فإنه عاد إلى غزة ليقود عمليات حماس ضد العدو الصهيوني، ويشارك في الانتفاضة الثانية عام 2000.


 صواريخ لقتل الشيخ وخليفته


ولأن السلطة الفلسطينية كانت قد لجأت إلى أسلوب التفاوض وأوكلت إسرائيل إليها مهمة منع المقاومة المسلحة، فقد قامت السلطة الفسطينية بفرض الإقامة الجبرية عليه في ديسمبر/كانون الأول 2001 وقطعت الاتصالات عن منزله، وكررت السلطات الفلسطينية إحاطة منزله بشرطتها في يونيو/حزيران 2002، وحاولت السلطات الإسرائيلية اغتياله بصاروخ أطلق على وحدة سكنية كان بها لدى أحد أصدقائه في سبتمبر/أيلول 2003، لكنه كان قد خرج منها قبل لحظات فأصابته شظاياها بجروح.


لتكرر المحاولة في الثاني والعشرين من مارس/آذار 2004 من خلال إطلاق مروحيات أباتشى صواريخ عليه، وهو في طريقه إلى سيارته مدفوعا على كرسيه المتحرك من قبل مساعديه، فيناثر جسده والكرسي في أنحاء المكان، مع استشهاد سبعة آخرين من مرافقيه.


وخلفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بموقع قائد حركة حماس في اليوم التالي، وكان يشغل منصب نائب رئيس الحركة، وقد سعى لتوحيد المواقف بين الفصائل الفلسطينية، إلا أن السلطات الإسرائيلية بعد 26 يوما من توليه، قامت بقصف سيارته بصاروخ ليلحق بالشيخ ياسين.


وفي نفس العام قامت السلطات الإسرائيلية بتسميم رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، ليتوفى في نوفمبر/تشرين الثاني 2004 بعد حصار مقره برام الله حوالي ثلاث سنوات منعته خلالها من الخروج حتى لحضور القمة العربية.


وهكذا شاهد الفلسطينيون في الداخل والخارج أن إسرائيل قد تخلصت ممن تبنى نهج المقاومة، وكذلك ممن تبنى نهج التفاوض ومنع المقاومة، ولم تنفذ مقررات اتفاق أوسلو عام 1993 بإقامة دولة فلسطينية، ومع إجراء انتخابات برلمانية بداية عام 2006، انحازت الأغلبية من فلسطينيي الداخل إلى خيار المقاومة فاختارت حماس، خاصة مع تعدد اغتيال إسرائيل لقيادات حماس ومنها ياسر النمروطي وجميل وادي ويحيى عياش وعماد عقل وغيرهم.


  مضمون دعوي وتربوي مختلف بغزة


ثم إن الدول الغربية وبعض الدول العربية عاقبت الفلسطينيين على خيارهم الديمقراطي بمنع المعونات عنهم، لتعجز الحكومة الجديدة عن دفع الأجور للموظفين لشهور عديدة؛ مما دفع الرئيس محمود عباس الذي خلف ياسر عرفات إلى إقالة الحكومة. وفي عام 2007 استولت حماس على إدارة غزة وتولت إدارتها بعد صدام دامٍ مع حركة فتح.


وعند ذلط ازدادت حدة الحصار البري والبحري والجوي على غزة من قبل إسرائيل، وإغلاق المعابر البرية التي تربط غزة بإسرائيل والعالم والضفة الغربية، وشاركت مصر في الحصار بإغلاق معبر رفح الذي يربطها بغزة.


وهكذا تحولت غزة إلى سجن كبير تحت إدارة حماس التي سعت لبناء ما يشبه المدينة تحت الأرض، لحماية قواتها من القصف المتكرر للطيران الإسرائيلي، ومع إطلاق حماس وتنظيم الجهاد صواريخهما على مواقع إسرائيلية، تكرر عدوان إسرائيل الغاشم على غزة سنوات 2006 و2008 و2012 و2014 و2018 و2021، لكن الحاضنة الشعبية في غزة كان لها أثرها في الصمود والثبات في كل مرة.


وذلك لقوة الدور التربوي للمساجد والمدارس والجامعة الإسلامية بغزة، والتكافل والتعاضد والأنشطة الطلابية والنسائية والإعلامية لحماس وغيرها، وتشجيع حفظ القرآن وإحياء فريضة الجهاد من خلال المقاومة، فمساجد غزة على سبيل المثال تشهد خطبا للجمعة تقدم الإسلام الصافي الذي يربي على العزة والكرامة والفداء.


وهو خلاف لما نشهده بدول عربية تحدد فيها وزارة الأوقاف موضوعا موحدا للخطبة، وتُلزِم بالنص المكتوب إلى جانب انتشار مخبري الأمن للتأكد من انضباط الخطيب، وقل مثل ذلك مع المناهج الدراسية التي تم تعديل الكثير منها بدول التطبيع لتحسين صورة إسرائيل والحكام، والنتيجة أن المواطن بغزة يتلقى مضمونا تربويا وتعليميا وإعلاميا مختلفا، يساهم في إعلاء قيمة الجهاد في وجدانه، ولهذا تسعى الدول الغربية حاليا لمنع تلك الحاضنة المقاومة.


وعزز ذلك ظهوز رموز عديدة ضحوا بأرواحهم وحياة أبنائهم وزوجاتهم، مثل محمد الضيف الذي ماتت زوجته وابنه بالقصف، وصلاح شحاته الذي استشهد مع زوجته وإحدى بناته، ونزار ريان الذي استشهد هو وابنه، وأحمد الجعبري الذي استشهد هو وابنه، وكذلك أم نضال التي استشهد أولادها الثلاثة.


ومع تكرار الاعتداءات واستشهاد المئات، وعلوّ فكرة شفاعة الشهيد لسبعين من أهله، ولأن لكل شهيد الكثير من الأقارب والجيران والمعارف، فقد أصبحت فكرة الاستشهاد أمرا معتادا، ومع اقتران الاستشهاد والإصابات الجسمية بتدمير البيوت، فقد زاد علوّ منطق الثأر من العدو الذي تسبب في كل هذا الدمار، لتجد كل عملية حرب جيلا مستعدا لخوضها، وهو ما نتوقع تكراره في السنوات المقبلة.


فعندما تعود الدراسة إلى المدارس والجامعات ويكتشف الطلاب غياب الكثير من زملائهم بسبب استشهادهم، وعندما تعود الأسواق وأماكن العمل إلى طبيعتها، ومع نقل ركام المنازل ونقل رفات من تحتها من الضحايا واتضاح الصورة الكاملة لعدد الشهداء والمصابين، ستزداد روح الثأر ليس فقط من العدو الصهيوني، بل ربما تمتد إلى المساندين للعدو وإلى الذين تخاذلوا عن نصرة أهل غزة.