بقلم : محمد عبد الحافظ

بين مجزرة "المستشفى المعمدانى" فى قطاع غزة 2023، ومجزرة مدرسة بحر البقر في مصر 1970 ما يزيد على نصف قرن، لكن أوجه الشبه بينهما كبيرة وواضحة، تماماً كما هي سلسلة المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين والعرب على مدى قرنٍ تقريباً.

الهمجية، والوحشية، والكذب، والتضليل، وانتهاك كافة القواعد الأخلاقية والإنسانية هي القواسم المشتركة في سلوك هذا الكيان المحتل اللقيط، الذي يعيث في أرض غزة قتلاً وتدميراً منذ السابع من أكتوبر 2023، ويرتكب جرائمَ أقل ماتوصف به هو أنها جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية. 

وبالنظر إلى مجزرة المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، التى قتل فيها مايزيد على 600 من أبناء غزة غالبيتهم من الأطفال والنساء، وأصيب فيها أضعاف هذا العدد، نجد أن هؤلاء الضحايا هم من النازحين الذين هُدّمَت بيوتهم قصفاً بالطيران على رؤوسهم ورؤوس أهليهم الذين فقدوهم، ومن ثَم جاءوا يحتمون بجدران هذا المستشفى "المسيحى الإنجليزى"، والذى يحتوى على كنيسة بداخله، ظناً منهم أن الصهاينة لن يجرؤوا على المساس به، إضافةً إلى المرضى والمصابين الذين كانوا يتلقون العلاج.


المشاهد المروعة للمذبحة استدعت للذاكرة مجزرة " بحر البقر التى وقعت عام 1970، في مدرسة الأطفال الابتدائية المصرية بمحافظة الشرقية (شمال شرق مصر)، والتى قتل فيها 30 طفلاً وأصيب 50 آخرون، تتراوح أعمارهم بين 6 و 12 عاماً، وذلك من بين 89 طفلاً، كانوا حضوراً فى المدرسة فى ذلك اليوم، بالإضافة إلى إصابة 11 مدرساً وعاملاً فى المدرسة.

وبين هاتين المجزرتين، وقبلهما، تعددت المجازر التي تصبغ تاريخ هذا الكيان المغتصب بلون الدم، وتغلفه بسواد الهمجية والوحشية.

والمدقق في سلوك العدو فى هذه المجازر يلحظ عدة مفارقاتٍ ملفتة للنظر:
المفارقة الأولى: أنها تكون بعيدة كل البعد عن خط المواجهة، فمجزرة بحر البقر المتعمدة على مدرسةٍ مدنيةٍ روادها أطفال، كانت في قرية زراعية فى محافظة الشرقية، بعيدة تماما عن أرض المعركة، التى هى ضفتى قناة السويس، الضفة الشرقية التى يحتلها جيش الكيان مع باقى أراضى سيناء، والغربية التى يتمركز فيها الجيش المصرى فى حرب الإستنزاف.

كذلك كانت مجزرة "أبو زعبل"، عندما قامت طائرات الكيان الحربية بقصف وحرق مصنعٍ فى منطقة " أبو زعبل" التابعة لمحافظة القليوبية، يعمل به 1300 عامل، ما أوقع 70 قتيلاً مدنياً من عمال المصنع وأصاب مثلهم.
كما كانت هناك غارات على أهداف مدنية أبعد فى دهشور، وحلوان، والمعادى نتج عنها ضحايا من المدنيين، وقبل كل هذه كانت غارات أخرى على مواقع أخرى فى جنوب مصر، تبعد عن الأولى مئات الكيلو مترات كنجع حمادى فى محافظة قنا، وأدفو فى محافظة أسوان.
وهو الشئ نفسه الذي حدث في استهداف المستشفى المعمداني والمناطق المدنية المأهولة بالسكان في غزة، والتى ليس فيها هدف عسكري واحد، أو خط مواجهة مع المقاومة التي تتحصن بأنفاقها تحت الأرض.

والمفارقة الثانية: هى أن هذه الغارات، والاستهدافات لمواقعٍ مدنيةٍ كانت رداً على نجاحاتٍ لعملياتٍ عسكرية على مواقع عسكريةٍ للكيان وخلف خطوط قواته، أذاقته هزائم مريرة، وكبدته خسائر مؤلمة، فكان رده على هذه الصفعات المهينة هو قصف المواقع المدنية، وقتل الأطفال، والعمال، وغيرهم من المدنيين.
أما المفارقة الثالثة: فإن قادة ومجرمى الكيان، والذين أعطوا الأوامر بتنفيذ هذه المجازر يتنصلون من مسئوليتهم عنها، إما بادعائهم "أنها حدثت بالخطأ"، أو بنفى قيامهم بها، أو بتبريرها إلصاق الأكاذيب والاتهامات المفضوحة بالضحايا المدنيين الأبرياء، كما ادعوا فى مجزرة بحر البقر.
ففى البداية قالوا "إنهم يحققون فى الأمر"، ثم نفوا حدوثها، وبعدها زعم وزير دفاعهم موشى ديان "أن المدرسة قاعدة عسكرية، وأن الأطفال كانوا فيها للتمويه"، ثم صرح أحد مسئوليهم بـ"أن الأطفال كانوا يرتدون الزى الكاكى اللون، وكانوا يتلقون التدريب العسكرى"، ووصف إعلامهم الضحايا من الأطفال بأنهم "كانوا أعضاء فى منظمة تخريبية عسكرية".

نفس المبررات ساقوها فى مجزرة مصنع أبو زعبل، وأخيرا عندما ضربوا برج المراقبة المصري القريب من معبر كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة قبل أيام.

من المفارقات السابقة  يتضح لنا أوجه الشبه بين مجزرة "المستشفى المعمدانى" ومجزرة "مدرسة بحر البقر"، وغيرهما من المجازر، والتي تكاد تصل إلى حد التطابق.

وبقليل من الاستقراء لماضى الكيان وحاضره يتضح للمتابعين، والمحللين المحايدين، ولصناع القرار، والمعنيين، هذا التطابق فى نهج الكيان قديماً وحديثاً، وفى أساليب عمل قادته، وفى غلو إجرامهم، وترسخ قناعاتهم الوحشية.
يستوى فى ذلك اليساريون منهم واليمينيون، ويتفق فيه العسكريون والسياسيون، والمستوطنون على حدٍ سواء.
وذلك لأن كل هؤلاء يستقون أفكارهم ومنهجيتهم من عقيدةٍ، وأيدولوجية واحدة، وإن اختلفت اللافتات والشعارات التى يرفعونها، فمنبعها وأصلها واحد يمكن أن نتعرض له فى مقالٍ آخر، ولن ينتج عن هذا المنبع والأصل إلا الإجرام، والوحشية، والهمجية، وسفك الدماء، والتآمر، والخيانة، ونقض العهود.

ومن توقع منهم غير ذلك، فإنّا إن أحسنّا الظن به، نقول: إنه غافلٌ عن قراءة التاريخ قريبه وبعيده.
وأما من يتعامل معهم، أو يتعاون معهم، أو يعوّل عليهم فهذا مجرمٌ مثلهم، وهو لا يعنيه ماهم عليه، ولا تعنيه جرائمهم، وإنما تعنيه مصالحه، أو مطامعه، أومشاريعه التى تتقاطع مع مشروعهم.
وهو فى ذلك مخدوع، لأن هؤلاء لا عهد لهم، ولا ميثاق، ولا صديق لهم، ولا حليف. "وسيعلم الذين ظلموا أى منقلبٍ ينقلبون".