فرقٌ هائلٌ بين أن ترفض مبدأ التهجير للشعب الفلسطيني من غزّة على إطلاقه وأن ترفض تهجيرهم إلى هذه المنطقة أو تلك، إذ لا يختلف الخيار الثاني عن القبول والتأييد لفكرة اقتلاعهم من وطنهم وتهجيرهم.

الموقف الأخلاقي والإنساني والقانوني المحترم هو الرفض المبدئي لمخطّط تهجير شعب من وطنه إلى أيّ مكان، وفي أيّ زمان، لكنك حين تعلن رفضَك تهجيرهم على حسابك، وفي أرضك، ثمّ تسكُت، فأنت هنا لا تُعارض منطق التهجير.. أما إذا تطوّعت وقدّمت اقتراحًا بأماكن للتهجير، فأنت هنا تصبح جزءًا من مخطّطٍ شريرٍ ضد الشعب المستهدف بالاقتلاع من أرضه، وفي حالة أنّ هذا الشعب هو شقيق لشعبك، فإنّك في هذه المرحلة تكون شريكًا في مؤامرة ينسج خيوطها العدو.

هذه أمور تُدرك بالبداهة من دون حاجةٍ إلى شرح وتفسير، ولذلك لم تخمد نار الغضب في صدور عشرات الملايين من الشعب العربي، منذ أعلن عبد الفتاح السيسي بلسانه، وعلى الهواء مباشرة، رفضه القاطع تهجير فلسطينيي غزّة إلى سيناء، مقترحًا في مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني، أولاف شولتز، نقلهم إلى صحراء النقب حتى يتسنّى للكيان الصهيوني إنهاء مهمته في القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزّة الصامدة.

هذا التصريح هو الأسوأ في الخطاب السياسي الرسمي العربي، ليس فقط في محتواه الخطير، وإنّما في أسلوب عرضه الذي يشي بأنّ قائله ينظر إلى الإنسان الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، والذي يُكابد عذابات ظلم دولي ممتد بطول 75 عامًا، بوصفه خطرًا وجوديًا على أشقائه، أو من يفترض أنّهم أشقاؤه، وعبئًا عليهم، كما هو عبءٌ على الاحتلال الذي يرتبطون معه بعلاقات صداقةٍ وشراكة، لا تتوقّف عند حدود مزاملته في حلف عسكري واحد تحت مظلّة القيادة الوسطى الأميركية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تجمع في عضويتها ثمانية جيوش عربية مع جيش الاحتلال الصهيوني، بل تتعدّى ذلك إلى إنعاش خزينة الاحتلال بشراء الغاز الطبيعي المستخرَج في أراضي فلسطين المحتلة منه.

القول بترحيل فلسطينيي غزّة إلى صحراء النقب حتى ينتهي الاحتلال من أعماله الإجرامية في غزّة، لا يقلّ بشاعة عمّا صرّح به وزير خارجية الاحتلال "في نهاية الحرب، لن يتوقّف الأمر عند عدم وجود حماس بعد ذلك في غزّة، بل أيضا ستتقلص مساحة القطاع".

شملت الصدمة من تصريحات السيسي الجميع، معارضين ومؤيدين، وأزعم إنّها أربكت الخطاب الإعلامي الصادر عن النظام المصري. وفي محاولة بائسة لمعالجة آثار الصدمة، بدأت نغمة أنّ الجنرال قال ما قال من باب التهكّم والهزار الساخر، لكن ذلك التبرير الساذج يصطدم بعدّة أشياء، في مقدّمتها الجدّية والصرامة في ملامح المتحدْث، وكذا تأكيده أنّه يقول ذلك في المباحثات الثنائية وفي العلن، ناهيك عن أنّ المؤتمرات الصحافية عقب لقاءات بين رؤساء دول في حالة الحرب لا تحتمل السخرية والتهريج، وإلا فإنّها تبعث رسائل شديدة الابتذال.

 يبقى أنّ الدعوة إلى الخروج في تظاهرات شعبية لتفويض "القيادة" في اتخاذ ما تراه لحماية الأمن القومي المصري ودعم القضية الفلسطينية، هي بمثابة تهريج إضافي في موضع الجد الذي لا يحتمل هذا الابتذال المتدفّق من مجالس النواب والشيوخ وأمناء الحوار الوطني والممثل محمد رمضان ومصطفى بكري في توقيت واحد، إذ أنّ القيادة، أيّة قيادة، عندما يكون الوطن في مرمى الخطر، لا تحتاج إلى زفّّة شعبية راقصة لكي تمارس وظيفتها، فضلًا عن هذا الهطول المفاجئ لأعلام فلسطين في سماء القاهرة، وهو يبدو متناقضًا مع واقع يقول إنّ السلطة التي تدعو الشعب إلى التظاهر بالعلم الفلسطيني، هي ذاتها التي تحبس مواطنين بتهمة حمل العلم نفسه، وارتداء الحطّة والكوفية الفلسطينيتين.

كان من الممكن تصديق كلّ هذا الحب المفاجئ للشعب الفلسطيني لو أنّ أحدًا اهتم بتقديم اعتذار، أو حتى توضيح لما قيل، عن اقتراح تهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب حتى تُنجز إسرائيل عملها في سحق مقاومة الشعب الفلسطيني... غير ذلك تكون الدعوة إلى التظاهرة لترميم شعبية المشير لا للتصدّي للتهجير.