هل ستكون معركة "طوفان الأقصى" بداية لعصر جديد خال من التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وهل ينجح الطوفان في إعادة تيار التطبيع الرسمي بين عدد من الدول العربية والاحتلال إلى النقطة صفر؟ وهل يمكن إعادة ترميم أو تعويض ما فقده الاحتلال من جهود تطبيعية على المدى القريب؟
هذه الأسئلة باتت مطروحة بكل قوة خاصة بعد القرار الأخير الذي أصدره الكيان الصهيوني لسفاراته وقنصلياته في الدول العربية والإسلامية التي تقيم علاقات معه بإغلاق المقرات ومغادرة كافة الدبوماسيين، ثم أتبعه بنداء لرعاياه بمغادرة عدد كبير من الدول العربية والإسلامية على وجه السرعة خاصة تلك الدول التي تفاعلت فيها الحشود الجماهيرية المنددة للعدوان على غزة وفلسطين بشكل كبير.
صحيح أن هناك من يرى أن الدلالة الأولى التي يمكن استقراؤها من هذا القرار وذلك النداء هو استعداد الكيان لعدوان شامل وواسع النطاق على غزة، إلا أن هذه الدلالة – وهي معتبرة بلا شك – لن تكون الدلالة الوحيدة للحدث بل تحمل معها دلالات ذات صلة بتعثر التطبيع الشعبي وربما عدم جدوى التطبيع مع الحكومات العربية على المسار الرسمي.
فمن الواضح أن التعاطف الشعبي الواسع على المستوى العربي والإسلامي منذ 7 أكتوبر والذي زاد مع قصف مستشفى المعمدان، كان مربكا لحسابات حكومة الاحتلال ومعها الولايات المتحدة وكل الدول الغربية الداعمة لها، وجعل الخيارات التي يمكن التعامل معها محدودة ومحصورة في المواجهة العسكرية الشاملة للقطاع دون النظر إلى الخطوة التالية التي غابت خلف تداعيات الواقع.
ولا أتصور أن الوقت كان كافيا لدى الكيان المحتل لدراسة تداعيات الحدث وتفاعلاته الشعبية – عربيا وإسلاميا- على مستقبل التطبيع الذي كانت تضعه في سلم أولوياتها خلال المرحلة الفائتة، ومن ثم جاء القرار بإخلاء السفارات وإخلاء الرعايا على عجل دون إمعان في التفكير أو تريث في دراسة العواقب أو فوات المصالح التي كانوا يرونها ذات أولوية منذ أيام معدودات.
كما لم يكن – أيضا- الوقت كافيا لدى الكيان لدراسة البدائل التي يمكن لكيان محتل أن يحتمي به وسط طوفان بشري شعبي يرفض وجوده ولا يقبل التعامل معه، بعد أن بات التطبيع فكرة غير قابلة للتطبيق.
بل ولم تمتلك الولايات المتحدة ومعها الدول الداعمة الوقت كذلك لمراجعة البدائل للدور الوظيفي الذي بنوا عليه فكرة تأسيس كيان في المنطقة العربية يسعى لإضعافها وحجب القوى الفاعلة فيها ثم قيادتها نيابة عن الكفيل الغربي، بما جعل الحل الوحيد المطروح هو الدعم الكامل والشامل للاحتلال بغض النظر عن أي اعتبارات إنسانية.
فالجميع تحرك- فيما يبدو- على عجل، وفكر دون روية واتخذ قرارات دون تريث، نسفت كافة الجهود التطبيعية التي بذلك على مدار سنوات طوال وذلك رغبة في التعاطي السريع مع حدث مباغت لم يكن مدرجا في الحسابات ولم يكن مخططا طرح طرق التعاطي معه.
التطبيع... الخسارة الأكثر فداحة
وحتى نقف على حجم الخسارة التي مني بها الاحتلال ومعه القوى الغربية الداعمة له من وراء الانخراط في مواجهة شاملة داخل غزة علينا أن ستعرض تلك الجهود التي بذلت على مدار ما يقرب من خمسين عاما في مجال التطبيع بهدف تمكين الكيان المحتل من قيادة المنطقة بما يعد الخسارة الأفدح والأكبر خلال مراحل الصراع المختلفة.
وبإطلالة سريعة على تاريخ عمليات التطبيع التي تمت والجهود التي بذلت يمكننا أن ندرك حجم الخسائر التي تعرض لها الكيان المحتل، والتي أهدرت جهودا ضخمة بذلت ولم يظهر حتى اللحظة ما يمكن أن يعوضها أو يكون بديلا عنها.
فالبداية الحقيقية لهذه الجهود كانت من مصر حيث محطة التطبيع الأولى عندما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات أول مفاجأة من خلال زيارته للقدس في 19 نوفمبر 1977 م لتكون هي البداية التي تداعت بعدها مشاريع التطبيع العربي على المستوى الرسمي مع الاحتلال وإن تأخر بعضها لسنوات على نحو ما نذكر:
•  اتفاق "كامب ديفيد" والذي وقع عام 1978 م بين مصر والكيان المحتل والذي وقعه كل من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء الكيان مناحم بيجن ونص على الانسحاب من سيناء.
•  معاهدة السلام والتي وقعتها مصر مع الكيان المحتل عام 1979 م ينسحب بموجبها المحتل من سيناء خلال ثلاث سنوات مقابل تطبيع العلاقات.
•  في عام 1980 م دخل التطبيع بين مصر والكيان المحتل من خلال تبادل السفراء وإلغاء قوانين المقاطعة، وتمت أول رحلات طيران منظمة إلى الكيان كما قامت مصر بعدها بتزويد الكيان بالنفط الخام.
•  مؤتمر مدريد عام 1991 م، ويعد أول تواصل مباشر بين طرف فلسطيني ممثلا في منظمة التحرير الفلسطينية مع المحتل على الرغم من أنه لم يصل إلى أي نتائج.
•  معاهدة السلام مع الأردن عام 1994 م، حيث كانت الدولة الثانية بعد مصر تعقد اتفاقا مع المحتل، ولكنها لم تثمر عن أي تطبيع شعبي.
•  اتفاقات أوسلو 1993 – 1995 م وتمت مع منظمة التحرير الفلسطينية دعت لإقامة حكم ذاتي للفلسطينيين وانتخاب مجلس في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية والتفاوض على تسوية دائمة، وهو ما لم يتم.
•  قمة كامب ديفيد عام 2000 م وكانت بحضور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ولكنها لم تسفر عن اتفاق.
•  مبادرة السلام العربية أو خارطة الطريق 2002 – 2003 م والتي أطلقها بوش بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين.
•  خطة سلام قدمتها المملكة العربية السعودية وأقرتها جامعة الدول العربية تقضي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على جزء من أرض فلسطين مقابل إقامة علاقات طبيعية مع المحتل.
•  قمة أنابوليس 2007 م واستضافتها الولايات المتحدة وحضرها أبو مازن ولكنها فشلت في الوصول إلى اتفاق.
•  خطاب نتينياهو 2009 م والذي تكلم فيه عن دولة فلسطينية منزوعة السلاح مقابل الاعتراف الكامل بالاحتلال.
•  محادثات السلام ودعت لها واشنطن بين عامي 2013 م – 2014 م ولكن تم تعليقها وعدم الوصل لأي اتفاق.
•  قام نتنياهو عام 2019 بزيارة إلى شطنه عمان وكانت الزيارة استمرارا لعلاقات تجارية بدأت بشكل غير رسمي عام 1994م.
•  خطة ترامب الاقتصادية 2019 م والتي أطلقها من البحرين ودعا فيها إلى إنشاء صندوق لاستثمار 50 مليار دولار لدعم الاقتصاد الفلسطيني ودول الجوار ولكنها فشلت.
•  خطة ترامب للسلام 2020 م وتقضي باعتراف الولايات المتحدة بالمستوطنات في الضفة بينما تفرض شروطا تعجيزية لإقامة دولة فلسطينية، وهو ما رفضه الفلسطينيون.
•  إعلان ترامب للتطبيع بين الإمارات والاحتلال في أغسطس 2020 م وطالب باقي دول الخليج قبول التطبيع.
•  إعلان البحرين التطبيع مع الكيان المحتل في سبتمبر 2020 م وذلك في بيان مشترك.
•  إعلان اتفاق التطبيع مع المملكة المغربية في 2020م تقضي بإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية كاملة واستئناف الاتصالات الرسمية مع المحتل.
•  اتفاقية التطبيع مع السودان في أكتوبر 2020 م تقضي بتطبيع العلاقات الرسمية مع الكيان المحتل، ووافق مجلس الوزراء السوداني في أبريل 2021 م على إلغاء قانون مقاطعة المحتل.
-  وإذا كانت هذه هي الجهود التي بذلك على مدار عقود لإيجاد علاقات طبيعية مع الكيان المحتل فإن الأفق لا يشير إلى تحسن ملحوظ يمكن أن يطرأ على هذا الملف على المدى القريب، دون أن يكون لدى الكيان المحتل والداعمون له أي آلية بديلة لاستعادة ما تم فقده بعد الطوفان، فعند الأزمات الكبرى تتراجع كافة المكتسبات لصالح الهدف الوحيد الآن وهو بقاء الكيان المحتل مستمرا دون أن يتفكك أو يتحلل.
وإذا وضعنا بالحسبان استمرار حالة الاستنفار الشعبي على المستويين العربي والإسلامي على ذات المعدلات التي وصلت لها خلال معركة الطوفان، بإمكاننا أن ندرك الصعوبات البالغة التي يمكن أن تعترض أي محاولات جديدة لترميم التطبيع أو إعادته إلى المشهد من جديد حتى وإن كان بصورة باهتة، وربما تكون هذه إحدى أهم التجليات لمعركة الطوفان والتي أفرزت نتائج كثيرة قد تدشن لواقع جديد.