ممدوح الولي

 

هذا السؤال يبدو لغزا لكثيرين، ولا سيما لأولئك الذين لاحظوا أن البيانات الحكومية المصرية تكشف عن زيادة في موارد النقد الأجنبي العام الماضي مقارنة بالعام الأسبق وبنسبة بلغت 14%، ونحن نبحث هنا عن تفسير هذا اللغز.

على سبيل التمهيد، يجب أن نعلم أن بيانات ميزان المدفوعات المصري العام الماضي أشارت إلى بلوغ موارد النقد الأجنبي من كل القطاعات 148 مليار دولار، بينما بلغت المدفوعات 158 مليارا، ليسفر الميزان الكلي للمدفوعات عن عجز بلغ 10 مليارات دولار.

ميزان المدفوعات في أي دولة يقيس مدى التوازن بين مواردها من العملات الأجنبية عبر أنشطة كالتصدير والاستثمار والسياحة والتحويلات والمعونات والخدمات، وبين مدفوعات النقد الأجنبي التي تدفعها نظير ما تستورده من سلع وخدمات أو أقساط ديون أو استثمارات خارجية ومصروفات سياحية لمواطنيها.

 

أبرز موارد النقد الأجنبي حسب بيانات البنك المركزي المصري في عام 2022 كانت:

 

مصدر الصورة: الموارد المصرية 2021/2022

 

أما أبرز المدفوعات فكانت كما يلي:

 

 

وتكشف الأرقام أن موارد النقد الأجنبي العام الماضي حققت زيادة بمعدلات جيدة عن العام الأسبق، وذلك رغم النقص في تحويلات المصريين في الخارج بقيمة 3.1 مليارات دولار الذي سببه وجود سوق موازية للصرف الأجنبي بعيدا عن القنوات الرسمية، فكانت المحصلة الكلية للعام أعلى من سابقتها بنحو 18.4 مليار دولار أو ما يوازي 14%.

أما المدفوعات فسجلت بعض بنودها انخفاضا مقارنة بالعام الأسبق، وسجل بعضها الآخر زيادة، وكان أبرز تراجع من نصيب الواردات السلعية غير البترولية نتيجة القيود المشددة التي فرضت عليها من قبل وزارتي التجارة والمالية والبنك المركزي لتخفيف الضغط على الموارد الدولارية، بينما زادت مدفوعات أقساط القروض وسياحة المصريين خارج البلاد، وفوائد استثمارات الأجانب والواردات البترولية وخدمات النقل المدفوعة، لتكون المحصلة الكلية زيادة المدفوعات بنحو 28.7 مليار دولار بنسبة توازي 22%.

ويعد التضخم العالمي سببا رئيسا لزيادة الصادرات والواردات المصرية العام الماضي، فقد زادت أسعار أبرز سلع الصادرات المصرية كالأسمدة والغاز الطبيعي والنفط، بينما زادت في المقابل أسعار معظم الواردات من حبوب ومشتقات ولحوم وخامات ومعدات وسيارات ومعادن وأغذية، وربما كانت الصورة ستغدو أوضح لو نشر البنك المركزي المصري كميات السلع المصدرة والمستوردة، لكن البيانات المنشورة تقتصر فحسب على قيمة السلع دون كميتها.

 

حلّ اللغز

ويظل السؤال الجوهري: كيف لدولة حصلت على موارد من النقد الأجنبي مجموعها 148 مليار دولار أن تشهد نقصًا في العملات الأجنبية؟!

هذا النقص هو الذي يسمح باستمرار السوق الموازية للصرف الأجنبي، وتسبب فى خفض قيمة الجنيه المصري أكثر من مرة، كما تسبب في خفض وكالتي "موديز" و"فيتش" للتصنيف الائتماني لمصر للمرة الأولى منذ عام 2013، وتعديل النظرة المستقبلية إلى الاقتصاد المصري من مستقرة إلى سلبية، وهي النظرة التي اتفقت معهما فيها وكالة ثالثة هي "ستاندر آند بور".

ولحل هذا اللغز ينبغي أن نعرف أن العجز الحقيقي لميزان المدفوعات المصري لا يقتصر على المليارات العشرة التي يظهرها الفارق بين الموارد والمدفوعات، وإنما يتضمن قيمة القروض والودائع والتسهيلات الأجنبية البالغة 31 مليار دولار، وبهذه الصورة يبلغ 41 مليار دولار، وهو رقم كبير يمثل أكثر من 3 أضعاف دخل السياحة و4 أضعاف صافي الاستثمار الأجنبي المباشر و5 أضعاف عوائد قناة السويس.

 

الدولارات ليست من نصيب الحكومة

والسبب الرئيس لاستمرار نقص الدولار رغم زيادة الموارد هو أن البنك المركزي يحتسب الموارد الداخلة إلى البلاد أيا ما كانت الجهة التي تحصل على تلك الموارد، وهنا نجد أن أغلبية الموارد الأجنبية لا تتجه إلى الحكومة المصرية، وإنما إلى القطاع الخاص سواء كان مصريا أو عربيا أو أجنبيا، وهي بهذه الصورة لا تستطيع استخدام هذه الموارد في شراء ما تحتاجه من حبوب وسلع غذائية ومشتقات بترولية أو في سداد أقساط الديون.

على سبيل المثال، فحصيلة الصادرات غير البترولية البالغة 26 مليار دولار لا تحصل منها الشركات المملوكة للحكومة إلا على نصيب محدود، بينما يتجه معظمها إلى حسابات شركات القطاع الخاص العاملة في مجال التصدير سواء كان مالكوها من المصريين أو الأجانب، وهذه الشركات غير ملزمة بإيداع ما تحصل عليه من عملات أجنبية في البنوك المصرية، إذ يلجأ بعضها إلى احتجاز جانب من حصيلة صادراته في الخارج ليستخدمها في تمويل وارداته من المواد الخام ومستلزمات الإنتاج.

الحال ذاته مع صادرات البترول والغاز الطبيعي، فالشركات الأجنبية العاملة في هذا المجال في مصر تحصل على نسبة قد تكون أكبر من نسبة الحكومة من عوائد تلك الصادرات، ويتكرر الأمر مع الشركات السياحية وشركات خدمات النقل وغيرها، حيث تلجأ كثير من تلك الشركات إلى تحويل مكاسبها إلى الخارج.

ولذلك لا يكون مستغربا أن تشير بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر للعام المالي 2021/2022 في قطاع البترول والغاز الطبيعي إلى أن قيمة الاستثمارات الداخلة إلى مصر بلغت 4.69 مليارات دولار، أما قيمة الخارجة منها فبلغت في الفترة نفسها 7.3 مليارات دولار بصافي عجز يبلغ 2.6 مليار دولار.

 

الإيرادات السياحية غير دقيقة

تحويلات المصريين في الخارج هي أيضا من البيانات التي تؤدي إلى سوء الفهم، فمعظم هذه الأموال تتجه إلى أسر هؤلاء المغتربين ولا تذهب إلى الحكومة، وهذه الأسر تقوم ببيع ما لديها من عملة أجنبية كلما اقتضت ضرورات المعيشة ذلك، وربما فعلوا ذلك في السوق السوداء وليس عبر القنوات الرسمية ليستفيدوا بفارق سعر الصرف.

وبذلك فإن ما تحصل عليه الحكومة حقًا من العائدات الدولارية يتمثل بصورة أساسية في إيرادات قناة السويس وعوائد الخدمات التي تقدمها القنصليات المصرية في الخارج، وبعض من حصيلة صادرات النفط والغاز الطبيعي، وحصة صغيرة من عوائد الصادرات السلعية ومن فوائد الودائع الحكومية في الخارج التي قد تكون مملوكة لبنوك عربية أو أجنبية تعمل في مصر.

ملحوظة أخرى تخص الإيرادات السياحية البالغة 12.2 مليار دولار، فليس هناك ما يضمن دخول هذه الإيرادات إلى البلاد، لأن احتسابها يتم بصورة تقديرية معتمدًا متوسط إنفاق السائح خلال إقامته بمصر الذي يدور حول 80 دولارا في الليلة لكل من دخل البلاد وقضى بها أكثر من 24 ساعة حسب التعريف الدولي للسائح الذي لا يأخذ "الجنسية" في الاعتبار.

هذا الرقم التقديري إذن يحتسب الأفارقة الذين يمرون بمصر وقد يقضون فيها ليلة في طريقهم إلى دولة أوروبية، أو أولئك السودانيين الفارين من الحرب الأهلية، وهؤلاء وأولئك لن ينفقوا هذا المبلغ في الحقيقة.

السائحون الإسرائيليون أيضا الذين يعبرون الحدود من دون تأشيرة إلى مدن جنوب سيناء -وفق اتفاقية كامب ديفيد- يجلبون معهم في العادة مستلزمات إقامتهم من خيام وطعام وشراب وألعاب وسيارات، وبالكاد لا ينفقون شيئا في مصر، على عكس ما تتوقعه حسابات البنك المركزي.

سياحة الشارتر كذلك، وهي مدعومة من الخزانة المصرية، تتسبب في ما يسمى "حرق الأسعار"، أي التنافس في تقديم الخدمات بأرخص الأسعار وبقيم أقل كثيرا من الأسعار العالمية ومما تفترضه الحكومة، وهذا النوع من السياحة ينتشر بكثرة في مدن البحر الأحمر السياحية.

البنك المركزي المصري يعالج حسابيًا هذا النقص في الإيرادات السياحية الحقيقية عن الأرقام المُعلنة لها، ضمن بند "السهو والخطأ"، وهو البند الذي حقق تدفقًا سلبيًا إلى خارج البلاد بقيمة 2.7 مليار دولار العام الماضي.