الاطلاع على هدي السلف مواقفهم فيه خير كثير، إذ تصفو به القلوب، وتنضج به العقول، وتسمو به النفوس، ويتهذب به الخلق.

إن هذه النماذج النادرة ينبغي أن يرجع إليها الدعاة بين الفينة والأخرى ليتعرفوا على هديهم وسيرتهم وكيف يفكرون ويتعاملون وهم يمضون في طريقهم إلى الله تعالى.

وصدق الشاعر:

اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر   ضلّ قوم ليس يدرون الخبر

يقول الدكتور يوسف القرضاوي (رحمه الله): "ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه: الاطلاع على اختلاف العلماء، ليعرف منه تعدد المذاهب، وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته وأدلته التي يستند إليها ويعول عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة، وما أوسعه.

ومن أجل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة، وفي هذا قالوا: من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم، وقالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه!

وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لا يعرفون رأياً واحداً، ووجهة واحدة، أخذوا عن شيخ واحد، وانحصروا في مدرسة واحدة، ولم يتيحوا لأنفه لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر، أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة، أو يحيلوا أنظارهم في أفكار المدارس الأخرى.

والعجيب في أمر هؤلاء أنهم ينهون عن التقليد، وهم في الواقع مقلدون، رفضوا تقليد الأئمة القدامى، وقلدوا بعض المعاصرين، وأنهم ينكرون المذاهب وقد جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً، يقاتلون دونه، وينكرون على من خالفه!

وأنهم ينكرون علم الكلام القديم وما فيه من جدليات ومزايدات، وقد أنشأوا بأقاويلهم علم كلام جديداً، لا يهتم بغرس اليقين في القلوب بقدر ما يغرس في العقول حب الجدل في أمور العقيدة.

وكم من دارس منصف رجع عن تعصبه وغلوائه حين عرف في المسائل أقوالاً عدة لعلماء معتبرين.

ويقول بعض الإخوة: إن الرأي الذي ينفرد به فقيه أو اثنان خلافاً لجمهور الأمة يجب ألا يعتد به ولا يعول عليه.

وقال غيرهم: إن ما خالف المذاهب الأربعة التي تلقتها الأمة بالقبول، يجب أن يرفض ولا يقام له اعتبار.

والحق أن هذا كله لا يقوم عليه دليل من كتاب أو سنة.

فالإجماع الذي هو حجة – على ما قيل فيه – هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي، ولم يقل أحد: إنه اتفاق الأكثرية أو الجمهور، فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد.

صحيح أن لرأي الجمهور وزناً يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه، ولا نخرج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه، ولكنه ليس معصوماً على كل حال.

وكم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم، ولا يضره ذلك.

وكم من فقهاء التابعين من كان له رأي خالف آراء الآخرين، ولم يسقط ذلك قوله، فالمدار على الحجة لا على الكثرة.

وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال، مضى عليها أتباع مذهبه، مؤيدين ومصححين.

ومذهب أحمد بن حنبل – وهو المذهب المشهور باتباع الأثر – قد عرف بـ (مفرداته) التي نظمها من نظم، وألف فيها من ألف، وغدا من المعروف المألوف أن يقرا الباحث فيه هذه العبارة: وهذا من مفردات المذهب.

والمذاهب الأربعة – على ما لها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأمة – ليست حجة في دين الله، إنما الحجة ما تستند إليه من أدلة شرعية، منقولة أو معقولة.

وما يقال عن بعض الآراء: إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة، فهذا لا يؤخذ إلى إطلاقه وعمومه، فكم من رأي مهجور أصبح مشهوراً، وكم من قول ضعيف في عصر جاء من قواّه ونصره، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه وأقام عليه الأدلة، حتى غدا هو عمدة الفتوى.

وحسبنا هنا آراء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، التي لقي من أجلها ما لقي في حياته، وظلت بعد وفاته قروناً، وظل من العلماء من يعتبرها خرقاً للإجماع، حتى جاء عصرنا الذي وجد فيها سفينة الإنقاذ للأسرة المسلمة من الدمار والانهيار.

كما أن الاعتماد على حديث واحد أو بعض الأحاديث لإصدار الحكم الشرعي أمر لا يستقيم، فمثلاً في كل من دلالة الأمر والنهي سبعة أقوال على ما ذكر الأصوليون في مبحثَي الأمر والنهي.

وقد رأينا الصحابة يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم أوامر، ومع هذا يترخصون في تركها، لعلمهم أنها لم تكن عازمة جازمة، فإذا ثبت لهم ذلك باللفظ أو القرينة كانوا أسرع الناس إلى تنفيذها.

في أحد الأسفار للغزو، كانوا صائمين في رمضان، فأمرهم بالإفطار، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، متأولين أنه إنما أراد الرفق بهم، ولم يكن في الأمر ما يدل على الإلزام الجازم، فلما اقتربوا من التلاحم مع العدو، قال لهم: "إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا" فكانت عزمة، فأفطروا.

ورأيناهم في حديث: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم واصبغوا" يرون الأمر هنا لمجرد الإرشاد أو الاستحباب، فلهذا امتثل بعضهم وصبغ، وبعضهم لم يصبغ، ومنهم من صبغ بالحناء، وبغيرها، ومنهم من صبغ بالسواد.

وكذلك حديث: "لا تسم ابنك ولا غلامك نافعاً ولا يساراً ولا رباحاً.." إلخ، رأيناهم يسمون نافعاً ويساراً، كما هو ثابت في أسماء التابعين، مثل نافع مولى ابن عمر، وسليمان بن يسار، وعطاء بن رباح، وغيرهم.

ولهذا رأينا إماماً مثل ابن تيمية رحمه الله يحمل حديث: "من مس فرجه فليتوضأ" على الاستحباب. وكذلك الوضوء من أكل لحوم الإبل، يراه للاستحباب لا للوجوب، خلافاً لمذهب إمامه أحمد في المثالين" (انتهى كلام القرضاوي – رحمه الله).

بعد هذا الكلام الذي ذكره الدكتور القرضاوي (رحمه الله)، وهذا التوضيح اللطيف، لا أظنني بحاجة إلى مزيد من التعليق، سوى مطالبة إخواننا الصالحين أن يفتحوا عقولهم، وأن يقرأوا تاريخهم، وأن يرجعوا إلى هدى أسلافهم، وصدق من قال:

       أولئك آبائي فجئني بمثلهم    إذا جمعتنا يا جرير المجامع