نواصل رحلتنا عبر مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي "ابن القرية والكتاب.. الجزء الثالث"، وقد ذكرنا في حلقات سابقة العديد من المحن التي طالته، منذ الاعتقال في عهد الملك فاروق مرورا بمحمد نجيب وجمال عبدالناصر، ثم إعارته لقطر، والتي مثلت انطلاقة دعوية كبيرة للشيخ وبوابة للعالمية عبر انتشارها في دول الخليج، ما أدى لتمسك الحكومة القطرية بالشيخ والاحتفاظ بقيمته العلمية داخل أراضيها عبر إعطائه جواز سفر قطري، ينشر من خلاله الدعوة في مختلف الأقطار بعد رفض الحكومة المصرية إعطاءه تجديد لجواز سفره بعد انتهاء إعارته لقطر ورفضها تجديد الإعارة.

 

محنة 1965

انتهينا في الحلقة السابقة عند محنة اعتقالات 1965، ولكن العلامة القرضاوي سرد الكثير من ذكرياته عن تلك المحنة التي يقول عنها: "كانت هذه المحنة التي ابتُلي بها الإخوان في مصر، من المحن الكبرى في تاريخهم الدعوي والحركي، وقد كانت محنة ثقيلة وقاسية ومُرَّة على الإخوان".

ويتابع: "من ناحية الكم شملت أعدادًا هائلة، أكبر من أية مرة مضت، حتى إن أجهزة أمن عبد الناصر ومخابراته ذكرت على سبيل المباهاة أنها اعتقلت ثلاثين ألفًا من الإخوان في عدة ليال، فهي تعتبر هذا من "الإنجازات" العظيمة (!) التي ينبغي أن تكافأ عليها المكافآت السخية"!

ويضيف أنه من ناحية الكيف، فقد جرى فيها من أساليب التعذيب ووسائله الوحشية والحديثة، ما لم يجرِ في المحنتين السابقتين في عهد الثورة، ولا في المحنة التي مضت في عهد الملك فاروق وحكومة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي.

فقد تعلّم المجرمون أساليب استفادوها من الروس والشيوعيين، الذين هم أئمة القمع والقهر والتعذيب في العالم. فقد مورست أساليب لم تعرف من قبل، ومنها أساليب غير أخلاقية.

ومن ذلك اعتقال النساء وتعذيبهن، كما حدث مع السيدة المؤمنة الصابرة زينب الغزالي، التي حكت عن تعذيبها في كتابها "أيام من حياتي" ما يشيب له شعر الوليد، وما يندى له جبين كل مصري وعربي.

 

محنة لتقوية الصف ولم شمله من جديد

واعتبر الدكتور القرضاوي محنة 1965 تقوية للصف ولم شمله من جديد، حيث قال: "هذه المحنة كانت مفاجئة لجمهور الإخوان، فقد داهمتهم على غفلة، دون توقع منهم، ولا عمل قدموه يمكن أن يؤاخَذوا عليه، فقد كان أكثرهم منصرفًا إلى عمله المعيشي اليومي، يتقنه ويتكسب من ورائه: الموظف في وظيفته، والتاجر في تجارته، والزارع في زراعته، والمحترف في حرفته، والطالب في جامعته، وبحسبه أن يؤدي فرائض الله، ويجتنب محارم الله، ويتحرى الحلال، ويربي أولاده على طاعة الله، ويدع السياسة لأهلها، والدعوة لربها، على نحو ما قال عبد المطلب لأبرهة: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه!".

كان هذا هو اتجاه جمهور الإخوان بعد محنة 1954م -ـ 1965م، وهو الكمون والسكون، حتى تتغير الأحوال، وتواتي الفرصة. والتغيير حقيقة كونية، ودوام الحال من المحال، ومداولة الأيام سُنَّة قررها القرآن: "وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ".

ولهذا ينظر الإخوان إلى هذه "المحنة" الهائلة المريرة على أنها من جانب آخر كانت "منحة" ساقها الله تعالى للإخوان، الذين أرادوا أن ينشغلوا بهمومهم المعيشية عن همومهم الدعوية، وأن يقول كل منهم: نفسي نفسي، فشاء الله تعالى أن يريهم أن اعتزالهم لواجب الدعوة لن ينفعهم، وأنها قد أصبحت مكتوبة على جبينهم، مقروءة في وجوههم، موصولة بحياتهم، لا تنفصل عنهم، ولا ينفصلون عنها، فليحملوها بإرادتهم واختيارهم، بدل أن يُحمّلوها رغم أنوفهم، ففي الحالة الأولى يؤجرون على كل ما يصيبهم في سبيلها، وتجد أنفسهم السكينة والرَّوْح كلما مسهم قرح، أو نزل بهم بلاء، فهو في سبيل الله، أما في الحالة الأخرى، فلا أجر فيها ولا مثوبة في الآخرة، ولا سكينة ولا راحة في الدنيا.

 

أسباب المحنة

وعن أسباب المحنة روي القرضاوي في مذاكراته قائلا: "بدأت هذه المحنة بالقبض على الأستاذ محمد قطب يوم 30 يوليو سنة 1965، ثم القبض على الأستاذ سيد قطب في 9 أغسطس التالي، وانطلقت بعد ذلك جحافل عبد الناصر تلقي القبض على آلاف الإخوان، وافتخر عبد الناصر فيما بعد بأنه قبض على ثلاثين ألفا في نصف ساعة!

وكان القبض على الإخوان المسلمين بتهمة أنهم يدبرون مؤامرة للعدوان على عبد الناصر وقتله، ويذكر الأستاذ موسى صبري -وهو كمسيحي لا يمكن أن يكون ضالعًا مع الإخوان- أن كل الثقات يؤكدون أن قضية الإخوان التي أُعدم فيها سيد قطب كانت من اختراع شمس بدران، وزبانية البوليس الحربي، وأنها مؤامرة وهمية، وأن التعذيب في هذه القضية هو قمة المأساة.

ويقول العلامة أن الرئيس أنور السادات تحدث عما أصاب الإخوان المسلمين في هذا العام فيقول: هُيئ للسلطة الحاكمة في ذلك الوقت أن الإخوان يتآمرون ليقوموا بثورة مضادة، وقد ذهب ضحية هذا التصور الكثيرون ممن يحصون بالألوف، وصدرت ضد الكثيرين منهم أحكام، وظل الجميع في المعتقلات أو السجون إلى أن صفيتُ العملية كلها، فأغلقتُ مباشرة بعد القضاء على مراكز القوى في سنة 1971، أما المحكوم عليهم -سواء من الإخوان أو أية قضية سياسية أخرى- فقد أطلقت سراحهم مباشرة بعد معركة أكتوبر سنة 1973م".

 

محاكمة سيد قطب

لقد أخطأ عبد الناصر ورجال أجهزته من شمس بدران ووزارة الدفاع، وأجهزة المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية وغيرهم، حين ظنوا أن "الأفكار" تُحارب بالاعتقال والسجن والتعذيب والإعدام. إنما تحارب الفكرة بالفكرة، والحجة بالحجة، واللسان باللسان، والقلم بالقلم، ولا تحارب الفكرة بالقوة، ولا الحجة بالسجن، ولا اللسان بالسنان، ولا القلم بالسيف.

لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب "معالم في الطريق"؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده، وإن كان أصله مأخوذا من تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الثانية، وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى. كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها "مكتبة وهبة"، ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب، وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف.

وصدق ما قاله عليه رحمة الله: "ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة!"، فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب، بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!

حوكم سيد قطب أمام "محكمة عسكرية" تتكون من ضباط كبار، والأصل في المحاكم العسكرية أن تحاكم العسكريين من الضباط والجنود فيما خالفوا فيه النظام والقوانين العسكرية، وهذا طبيعي ومنطقي أن يحاكم العسكريون عسكريين مثلهم، وهم أولى بهم. ولكن المشكلة تكمن حين يحاكم العسكريون المدنيين في تهم لا تتعلق بالجانب العسكري؛ فهذا ما تلجأ إليه الأنظمة الديكتاتورية تحت شعار الأحكام العرفية أو أحكام الطوارئ؛ ليحكموا على خصومهم السياسيين أو العقائديين بما لا ترضاه المحاكم المدنية.

ورأينا اللواء فؤاد الدجوي يحاكم سيد قطب؛ فإن من العجب حقا أن يحاكم رجل عسكري -مهما تكن خبرته ومعرفته- رجلا في حجم سيد قطب الأديب الناقد العالم المفكر!!

وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام، وعلى آخرين بأحكام متفاوتة، وقد قوبل الحكم بالإعدام على سيد قطب وصاحبيه بالدهشة والاستغراب والإنكار، بل الرفض والاحتجاج من أنحاء العالم العربي والإسلامي، وقامت مظاهرات، وأرسلت برقيات، وحدثت وساطات لدى عبد الناصر، وكان الكثيرون يتوقعون أن يستجيب لها؛ فلم يفعل، وسد أذنا من طين، وأذنا من عجين، كما يقول المثل.

لقد شنق ستة من قادة الإخوان سنة 1966م من أجل تهمة شروع في قتل عبد الناصر في ميدان المنشية، وإن كنا أثبتنا بالأدلة القاطعة براءة جماعة الإخوان من هذه التهمة، وقول الكثيرين: إن هذه "تمثيلية" وليست حقيقة، إلى آخر ما ذكرناه في حلقات سابقة.

 

من المسؤول عن هذه الدماء؟

واتهم القرضاوي جمال عبد الناصر بالمسؤولية الكاملة عن إسالة دماء الأبرياء  قائلا: "كان المسؤول الأول عن دماء الإخوان في المرات السابقة، وعن محنتهم بصفة عامة وزارة الداخلية المصرية، وأجهزة الأمن فيها، وبخاصة "المباحث العامة" التي سُميت فيما بعد "مباحث أمن الدولة". كانت هي التي تعتقل، وهي التي تتهم، وهي التي تحقق، وإن شاركتها وزارة الحربية ببعض الأشياء، مثل السجن الحربي بزنازينه وزبانيته وقائده المتجبر حمزة البسيوني. أما المسؤول الأول عن دماء الإخوان ومحنتهم في هذه المرة؛ فهو "وزارة الحربية" ووزيرها: شمس بدران، وإن شاركتها الداخلية بالمساعدة في القبض والاعتقال وغيرها.

لقد حاول بعض الناصريين أن يقلل من مسؤوليته ويخفف منها؛ لأنه في هذه الفترة من الزمن لم يكن هو الذي يحكم مصر في الحقيقة والواقع، إنما كان الحاكم الحقيقي لمصر هو المشير عبد الحكيم عامر الذي جمع السلطات كلها في يديه: العسكرية والمدنية، وأصبح لا يُبرَم أمر من الأمور إلا بعد أن يمر على عامر، وبات عبد الناصر بمثابة الملك الذي يملك ولا يحكم..

وكان عامر يفعل ذلك بحكم نفوذه في القوات المسلحة، حتى قالوا: إن عبد الناصر عرض عليه مرة أن يعينه نائبا لرئيس الجمهورية، ويدع الجيش والقوات المسلحة، ولكنه رفض؛ ليقينه أن من يملك القوات المسلحة يملك البلد كله. وهذا الذي قاله الكثيرون؛ أكده السيد حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة في أحاديثه مع أحمد منصور في برنامج "شاهد على العصر" الذي تقدمه قناة الجزيرة.

ومع تصديقي بهذه المقولة لا أعفي عبد الناصر من مسؤوليته التاريخية عن هذه المأساة؛ فهو الذي أعلن عنها من "موسكو"، وذكر في خطابه الشهير هناك قائلا: إننا سنضرب بيد من حديد، وإننا لن نرحم هذه المرة، كأنه قد رحم في المرة السابقة!

وقد أكد الكثيرون من المعتقلين -الذين كانت السياط تشوي جلودهم في زنازين التعذيب- أنهم رأوا بأعينهم عبد الناصر يحضر مشاهد التعذيب مع رجاله، ومن ذلك ما ذكرته الأخت المؤمنة الصابرة المحتسبة الحاجة زينب الغزالي التي ذكرت في كتابها "أيام من حياتي" ما لاقت من الأهوال، التي لا تكاد تُصدق من بشاعتها، وقالت: إنها رأت جمال عبد الناصر في إحدى مرات التعذيب.

 

حملة إعلامية في موسم الحج ضد بطش عبدالناصر

وتحدث الدكتور عن الدور الكبير الذي لعبه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الخارج ضد بطش جمال عبدالناصر فذ ذلك الحين، قائلا: "في حين أن إخوان مصر كان لا حول ولا قوة لهم إلا أن الإخوان في الخارج، قادوا حملة إعلامية لإنقاذ إخوانهم من بطش عبدالناصر، فيقول العلامة اتجه إليه الإخوان في الخارج: أن يواجهوا النظام الناصري المتجبر والمفتري، بحملة إعلامية مضادة، حيث يستحيل عليهم في داخل مصر أن يردوا على إعلام عبد الناصر المسخر لتأييد كل ما تقوله السلطة من حق أو باطل".

اختار الإخوان أن تكون هذه الحملة في «موسم الحج» حيث يجتمع الحجيج من مصر، ومن الوطن العربي، ومن العالم الإسلامي، ومن خارج العالم الإسلامي، حيث تعيش الأقليات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكتين وأستراليا. فهذا الموسم هو الزمان المناسب والمكان المناسب لتنظيم هذه الحملة ضد عبد الناصر، ونظام حكمه، القائم على البطش والقهر، وقمع المواطنين، وإرهاب كل شخصية أو جماعة تحاول أن ترفع رأسها لتقول في أي مناسبة للثورة: لِمَ؟ ناهيك بأن تقول: لا..

 

نكبة 67

وتتوالى الأحداث وانشغال النظام القمعي بقيادة جمال عبد الناصر في قمع جماعة الإخوان حتى حلت على مصر كارثة أخرى وهي نكبة 67، والتي يغفل عنها العلامة القرضاوي في وصف وصمة العار التي لصقت بنظام حكم العسكر قائلا: "إن نكبة الخامس من «يونيو» (5/6/1967م) الذي عرف بـ «حرب الأيام الستة»، والذي هزمت فيه «إسرائيل» مصر وسوريا، هزيمة ثقيلة، واستولت على سيناء في مصر، والجولان في سوريا، بضربة خاطفة قاضية، حطمت بها الطيران المصري، بضرب الطيارات وهي رابضة في مطاراتها، فدمرت الطائرات، وخربت المطار، وشلت بذلك سلاح الجو المصري، شللًا كليًّا، لا شللًا نصفيًّا. وأضحت القوات المصرية في سيناء مكشوفة بلا غطاء جوي، يحميها ويحرسها من الضربات الجوية للعدو المتربص".

يقول: "استيقظنا في الصباح على هذه القارعة الهائلة، وهذا النبأ المفزع، وأخذنا نتتبع الإذاعات والتلفازات، ونشرات الأخبار، لنعرف المزيد عما حدث.

ولم يكن لقطر في ذلك الوقت إذاعة ولا تليفزيون، فكنا نفتح إذاعة مصر، وتليفزيون مصر، فإذا هما يقولان كلامًا، وتقول إذاعة لندن وغيرها كلامًا آخر. ثم عرفنا بعد ذلك أن أكثر البيانات التي كانت تذيعها مصر إنما هي أكاذيب ملفقة، تحاول أن تمسك بها الناس أن يثوروا. فهي تخدعهم بمعسول القول، وأخبار النصر، وإسقاط طائرة في المكان الفلاني، وأخرى في مكان آخر، والناس تصدق هذا الهراء، وتركض من مكان إلى آخر لتبحث عن حطام الطائرة المسقطة، فلا تجد له أثرًا، ولا تسمع له خبرًا.

كانت الهزيمة ثقيلة، وكان حجم الخسارة ضخمًا، من الناحية المادية، ومن الناحية المعنوية. وقد اعترف عبد الناصر بعد ذلك في (23) يوليو وفي نوفمبر من العام نفسه، بمقدار هول الخسارة وفداحتها، وذكر أعداد المقتولين والمأسورين والمفقودين من الضباط والجنود، وصرح: أن الطريق إلى القاهرة كان مفتوحًا أمام إسرائيل. ولم يكن هناك جندي واحد يعوق تقدم إسرائيل لو أرادت

كما أعلن أرقامًا فادحة عن خسارة مصر في هذه المعركة المشؤومة، فذكر: أن مصر خسرت في هذه الحرب (80%) من سلاحها، و (10.000) جندي، و (1500) ضابط، وأُسر (5000)، و (500) ضابط لم يعد أكثرهم! هذا حديث عبد الناصر، وقد سمعناه بآذاننا.

وتذكر المراجع أن ضحايا هذه الحرب يبلغون (35.000) جندي قُتل أكثرهم في ساعات، وخصوصًا في الممرات؛ لأن «شارون» مجرم الحرب الإسرائيلي كان يسحقهم بالدبابات في الممرات(1).

أما التدمير الذي حل بمدن القناة، فخسارته أعظم من أن تقدر! وأما التدمير النفسي والمعنوي، فحدّث ولا حرج.

هذا وقد أعلن عبد الناصر: أنه يتحمل كامل المسؤولية عما وقع، ولكن هل هناك من سأله، ومن حاسبه"؟

 

رجال الثورة لم يستفيدوا من درس النكبة

ويضيف: "كنت أعيش في قطر، ولكني مهموم بما يجري في مصر، أتابعه بعقلي وقلبي، بواجدني وإحساسي، وذلك لعدة أسباب:

أولها: أن في مصر أهلي وأرحامي وإخواني، الذين لا يمكن أن أنساهم.

ثانيها: أني أؤمن بأن بلاد العرب - بل بلاد المسلمين عامة - وطن واحد، يسميه الفقهاء: «دار الإسلام»؛ لا ديار الإسلام، للإشعار بوحدة الأمة ووحدة الوطن.

وثالثها: أن ما يجري في مصر بخاصة يؤثر في البلاد العربية بخاصة، وفي البلاد الإسلامية بعامة، لما لمصر من مكانة دينية وعلمية وتاريخية.

فلا يلومني القارئ الكريم إذا عنيت بأحداث مصر، ولا سيما بعد نكبة عام (1967م).

لقد كانت هزيمة يونيو (1967م) كافية لأن يأخذ منها عبد الناصر درسًا وعبرة، ليغير من خطه، ومن سياسته، ويتنازل عن كبريائه، ويتعاطف مع أبناء شعبه الذين ردوه إلى الحكم بعد أن تنحى عنه، وكانت لهجة عبد الناصر في أول الأمر توهم بنوع من التغير، كما لاحظنا في خطابه في (23) يوليو (1967م)، ثم ما لبث أن غلب عليه طبعه، أو وسوس له شياطينه، فاستمر في نهجه الدكتاتوري، وتوجهه المجافي للإسلام ودعاته، وللحرية وطلابها، فقد كان الناس يتوقعون: أن تطلق الحريات، ويفرج عن كل المعتقلين والمسجونين السياسيين، وأن تعود الحرية للصحافة، كما كانت قبل الثورة، ويسمح بتكوين الأحزاب السياسية، ويقلع عبد الناصر عن تنظيم الحزب الواحد، وأن يسود القانون، وأن يشعر الناس بأنهم عادوا أحرارًا، كما خلقهم الله، وكما ولدتهم أمهاتهم".

 

من ثمرات النكبة ميلاد الصحوة الإسلامية

ورأي الشيخ أنه على الرغم من مرارة الاحتلال الاسرائلي لمصر إلا أن نكبة 67 كان لها ثمارًا يانعة أبرزها ولادة الصحوة الإسلامية ولادة طبيعية بلا قيصرية أو عملية جراحية: "لقد كانت نكبة (1967م) كارثة على مصر، وعلى سوريا، وعلى فلسطين، وعلى الأردن، وعلى العالم العربي كله.

لقد كانت خسائرها المادية جسيمة، كما ذكرها عبد الناصر في أكثر من خطاب له، وكما أشرنا إليها من قبل.

ومع هذا، قدر الله تعالى أن يجعل من وراء هذه المصيبة خيرًا كثيرًا، والعرب يقولون: رب ضارة نافعة. والصوفية يقولون: كم من منحة في طي محنة. والله تعالى يقول: {وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ} [البقرة: 216]، {فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡ‍ٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} [النساء: 19].

ومن هذا الخير الذي جاءت به الكارثة: إيقاظ ضمير الأمة العام، لترجع إلى الله، وتقرع بابه، وتسأله التوبة، فلا يرد الناس إلى الله مثل الشدائد، فالإنسان تغره العافية والرخاء، فإذا تبدل رخاؤه إلى شدة، وعافيته إلى بلاء: ذكر الله تعالى وأناب إليه، كما يفعل ركاب السفينة، إذا جاءتها ريح عاصف، وجاءها الموج من كل مكان، وظن ركابها أنهم أحيط بهم، هنالك يدعون الله مخلصين له الدين.

وهذا ما حدث بعد (1967م)، فقد حدثت يقظة دينية عامة، وأحس الجميع بفقرهم إلى الله، وتنادى الناس بضرورة التوبة إليه، والوقوف على بابه جل وعلا، وتجلى أثر ذلك في المساجد وفي البيوت، وفي الجامعات، وفي الجيش وفي غيرها.

ولم يستطع العلمانيون واللادينيون أن يقفوا في وجه هذه الموجة الإيمانية المكتسحة، والمهزوم لا يستطيع أن يقول: لا. وقد كسرتهم الهزيمة، فنكسوا على رؤوسهم وسكتوا، وانسحبوا.

بدأت هذه اليقظة صغيرة، ثم كبرت، محدودة ثم انتشرت، ضعيفة ثم قويت، مرتجلة ثم انتظمت.

وأول ما بدأ ظهورها وتجليها في شباب الجامعات، فالشباب المثقف هو أقرب الناس استجابة لهموم الأمة، ولدواعي الإيمان. بدأت في صورة دعوات لإقامة الصلوات، وحضور دروس دينية، وحلقات علمية في تفسير القرآن وفي السيرة النبوية.

ثم ما لبثت هذه الحلقات أن تحولت بمرور الزمن إلى ما عرف باسم: «الجماعات الإسلامية» داخل الجامعات.

أستطيع أن أقول: إن هذه الجماعات الإسلامية التي ظهرت في الجامعات، لم تكن في أول أمرها مرتبطة بأي جماعة، ولم تنشئها أي جماعة، لا الإخوان ولا غيرهم. لقد كانت نشأة عفوية تلقائية، من صنع الأحداث، وبترتيب قدري إلهي. وسرعان ما أصبح لهذه الجماعات: صوت مسموع، ولواء مرفوع.

السنة الدراسية (1968 - 1969م)

وفي سنة (1969م) حدث انقلابان عسكريان في الوطن العربي، كلاهما كان في الجناح الإفريقي من العالم العربي، وكلاهما مجاور لمصر: أحدهما في الجنوب، والآخر في الغرب، أحدهما في بلد جمهوري، والآخر في بلد ملكي.

 الانقلاب الأول: وقع في مايو في جمهورية السودان، والذي قام به الجيش بقيادة جعفر نميري، والذي أطاح بالحكم الديمقراطي الذي جاء بعد انقلاب عبود.

والانقلاب الثاني: وقع في أول سبتمبر أو في الفاتح من سبتمبر في المملكة الليبية، فقد فوجئنا، ونحن في لبنان، في أول سبتمبر، بما أذاعته وكالات الأنباء، من وقوع انقلاب عسكري في ليبيا على الملك السنوسي، تقوده فئة من الشبان.

 

سلسلة: «حتمية الحل الإسلامي»

تبنى عبد الناصر في «ميثاقه» الشهير: «حتمية الحل الاشتراكي» وتنادى الناس، وتحدثت الألسنة، وكتبت الأقلام، في تمجيد الحل الاشتراكي، وأنه الحل السحري، الذي يملك «عصا موسى» و«خاتم سليمان» فيحل كل عقدة، ويسد كل ثغرة، ويطعم كل جائع، ويُشَغِّل كل عاطل، ويؤوي كل مشرد، ويكفل كل محتاج! وهو القادر على تحويل بلادنا من زراعية إلى صناعية، ومن مستهلكة إلى منتجة، ومن بلاد نامية إلى بلاد متقدمة!

وعندما جرب الناس هذا الحل، لم يجدوا شيئًا من ذلك: لم يطعَموا به من جوع، ولم يأمنوا به من خوف، ولم يغتنوا به من فقر، ولم يُشفوا به من مرض، ولم يرتفعوا إلى الإنتاج والصناعة والتقدم.

لهذا رأيت أن أرد على فكرة «حتمية الحل الاشتراكي» بسلسلة من الكتب، أطلقت عليها: «حتمية الحل الإسلامي»، تظهر في أربعة أجزاء:

1 - جزء يتحدث عن «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا؟».

2 - وجزء يتحدث عن «الحل الإسلامي: فريضة وضرورة» أي فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.

3 - وجزء يتحدث عن «الرد على شبهات العلمانيين والمتغربين» وإبراز «بينات الحل الإسلامي».

4 - وجزء أخير يتحدث عن «أعداء الحل الإسلامي» الذين يقفون في سبيله، ويعوقون طريقه.

وقد ظهر الجزءان الأول والثاني: في سنتي (1969م) و (1970م) على ما أذكر، وتأخر الجزء الثالث بعض الوقت، أما الجزء الرابع فتأخر كثيرًا، فلم يظهر إلا من عدة سنوات.

وقد كنت كتبت بعض المقالات في «حتمية الحل الإسلامي» قبل ظهور هذه السلسلة: في مجلة «المجتمع» التي كانت تصدر في بيروت في الستينات من القرن العشرين، ثم خلفتها مجلة «الشهاب» ردًّا على ما جاء في الميثاق الناصري.

ولا أفصل بكلمة «الحل» التفصيلات الجزئية العملية للمشكلات، بل الاتجاه الكلي العام؛ فـ «الحل الإسلامي» مقابل «الحل الاشتراكي» أو «الحل الرأسمالي» ولكل خصائصه ومقوماته وشروطه.

وكلمة «الحتمية» من «أكليشهات» الماركسيين، ولكني استخدمتها من باب «المشاكلة» كما يقول علماء البلاغة العربية، مثل قوله تعالى: {يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ} [النساء: 142]، {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا} [الشورى: 40].

 

السنة الدراسية (1970 - 1971م)

في أوائل شهر سبتمبر سنة (1970)، هزت العالم العربي مأساة هائلة لا ينساها التاريخ، وقعت تحت سمع العرب وبصرهم، في عاصمة عربية معروفة غير منكورة، هي «عمّان» عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية! إنها مأساة «أيلول الأسود» التي قتل فيها جمٌّ غفير من أبناء فلسطين في ثلاثة أيام، برصاص الجيش الأردني الباسل!! وهجماته العنترية على إخوانه الفلسطينيين، ومنهم من قتل في قلب منزله، وربما قتلت معه زوجته وأولاده، أو بعض أولاده، مثل صديقنا العالم الأزهري الشيخ عزت الشريف عليه رحمة الله.

 

ميلاد عبد الرحمن القرضاوي

ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: "في الثامن عشر من هذا الشهر - سبتمبر (1970م) - ولد ابني - الذكر الثاني - عبد الرحمن. فمنذ ابنتي أسماء: آثرنا أن نختار لأولادنا أسماء تراثية، من أسماء الأنبياء أو أسماء الصحابة والسلف. وقد جاء في الحديث الصحيح: «أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن»، وكنت أوثر اسم «عبد الله» لأنه اسم أبي، وفي ذلك إحياء لذكره. ولكن زوجتي فضلت اسم عبد الرحمن، فلم أحب أن أرفض رغبتها".

 

موت عبد الناصر

وفي هذا الشهر نفسه، وفي يوم (28) منه، أعلن نبأ هائل على العالم العربي، إنه موت عبد الناصر. وفي هذه الليلة اتصل الأخ الأستاذ عبد البديع صقر بي، وقال: إن إذاعة القاهرة أوقفت كل برامجها، ولا تذيع إلا القرآن، و«المارشات» العسكرية، وكذلك إذاعة «صوت العرب». ويبدو أن عبد الناصر مات، ويتوقع إذاعة الخبر بعد قليل.

 

تأسيس تليفزيون قطر

بعد نجاح قطر في إذاعتها التي سمع العالم صوتها من الدوحة، كان لا بد أن تستكمل مسيرتها الإعلامية بـ «تليفزيون قطر» الذي أنشئ له مبنى خاص قريب من الإذاعة.

وقد افتتح مبنى التليفزيون الجديد في شهر يوليو «تموز» سنة (1970م)، وكنت أقضي إجازة الصيف في لبنان، وكان المسئولون عن التليفزيون، وعن الإعلام عامة، يرون ألّا يظهر التليفزيون إلا وفيه برنامج ديني ينوّر المشاهدين فيما يتعلق بالدين، ويجيب عن تساؤلاتهم، وأطلق عليه عليه: «هدْي الإسلام».

 

الإفراج عن الأستاذ الهضيبي بعفو صحي

ففي (15) أكتوبر من سنة (1971م): صدر قرار الإفراج عن الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي أفرج عنه بعفو صحي.

 

ميلاد أسامة القرضاوي

وفي (10) فبراير سنة (1972م) ولد ابني أسامة. كان ميلاد أولادي السابقين كلهم في أواخر السنة الميلادية (3) في سبتمبر، و(2) في أكتوبر، وواحدة في ديسمبر، أما أسامة فجاء على خلاف المألوف، وولد في الشهر الثاني من السنة. لم يكن بينه وبين شقيقه عبد الرحمن إلا سنة وخمسة أشهر، وبهذا أصبح لي ثلاثة من البنين، وأربع من البنات. ولله الحمد على ما أعطى.

 

العودة للقاهرة بعد غياب 9 سنوات

وانتهى العام الدراسي (1972 - 1973م)، وكان لا بد من السفر إلى القاهرة، بعد غياب تسع سنوات كنت أقضي الإجازة فيها بين لبنان والأردن وتركيا، وقد استقرت الأمور، وأمن الناس من خوف، عهد الرئيس السادات، وأفرج عن المعتقلين، بل أغلقت المعتقلات، وأعلن عن سيادة القانون، وتنفس الناس ملء صدورهم، واستقبلوا لأول مرة: أنسام الحرية، لتنعش أرواحهم، التي طالما شعرت بالاختناق في العهد الغابر.

وعشت فترة إجازة الصيف في أمان واطمئنان، والحمد لله، سافرت إلى قريتي صفط تراب، لأزور الأهل والأقارب، وسافرت إلى زفتى، لأزور أختي من أمي، وسافرت إلى طنطا، لأزور خالتي التي حوكمت من أجلي، وسافرت إلى المحلة الكبرى، لأزور فيها إخواني وأحبابي القدامى.

 

مناقشة الدكتوراه في 23 يوليو

وسرعان ما أبلغت بتعيين موعد المناقشة لرسالة الدكتوراه، وذلك يوم (23) يوليو، وكان الفضل في هذا التعجيل يرجع إلى سعي الأخ الحبيب والصديق القديم: الأستاذ عبد العظيم الديب، الذي كان يعرف الشيخ السايس رئيس اللجنة، فزاره في بيته، وأعطاه فكرة كافية عني، وعرفه بأن وقتي في القاهرة محدود، وأن السرعة من صالحي، فقرأ الشيخ الرسالة بسرعة، وحدد مع العضوين الآخرين يوم (23) يوليو للمناقشة، وانتهت المناقشة، بقيام اللجنة لصلاة المغرب، ثم للتداول، وأخيرًا عادت فأعلنت نجاح الطالب بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى في الحديث وعلومه.