تحدثنا في الحلقات السابقة عن نشأة الإمام والعلامة يوسف القرضاوي بحسب مذكراته التي حملت عنوان "ابن القرية والكتاب سيرة ومسيرة"، وكيف نشأ يتيما وكيف أثرت عليه حياة القرية وكيف تعلم في الكتاب، والتحاقه بالمعهد الأزهري وتفاعله مع دعوة الإخوان، وكيف كان خطيبا مفوها وداعما لنشاطات الدعوة، وانتهينا بمحنة الاعتقالات التي طالته والتي بلغت ذروة سنامها بالسجن الحربي وكيف تعامل معها، حيث كانت من أقسى المحن التي مرت عليه، واليوم نحن على موعد مع حلقة جديدة من حلقات حياته والتي كتبها الإمام بقلمه بعد انتهاء المحن والاعتقال.

 

ما بعد السجن الحربي

وتحدث الدكتور يوسف القرضاوي عن مراحل التغيير في حياته عقب خروجه من السجن الحربي قائلا: "بعد صدور قرار الإفراج عنا - آخر فوج كان في السجن الحربي - وخروجنا من سجن القلعة، آخر محطة في اعتقالنا، نُقل كل منا إلى بلده، ليؤخذ علينا التعهد اللازم بأن لا نمارس نشاطًا سياسيًّا، ولم يكن محمد شديد مفتش مباحث المحلة - الذي قام باعتقالي وإيذائي - موجودًا، ربما كان في إجازة، فأراحني الله من رؤية وجهه.

وفرغت من إجراءات المباحث، وكان بعض الأقارب ينتظرونني، فذهبت إلى قريتنا «صفط تراب» التي استقبلتني بالفرحة من الرجال، والزغاريد من النساء، وكان الناس ينظرون إليَّ كأنما ولدت من جديد. ألسنا راجعين من السجن الحربي، الذي قيل فيه: الذاهب إليه مفقود، والراجع منه مولود؟ وبقيت أيامًا في القرية، كل يوم في بيت من بيوت الأقارب والأحباب الذين أولموا لي كل يوم بما لذ وطاب، من الطعام والشراب، كأنما يريدون أن يعوضوني عن حرمان مدة الاعتقال".

 

معارك - أو رحلات بحث - يتحتم عليَّ خوضها

وأشار الدكتور يوسف القرضاوي إلى العديد من المعارك التي كان يتوجب عليه خوضها لاستكمال أحلامه وطموحه من أجل خدمة الإسلام فيقول: "كان عليَّ في تلك الفترة أن أخوض عدة معارك ضرورية لحياتي ومستقبلي، لا يسعني أن أدعها، ولعل تسميتها: «رحلات بحث» أولى من تسميتها: «معارك»؛ فنحن في حاجة إلى أن نغير «لغة الصراع» إلى «لغة المسالمة».

وكانت الرحلة الأولى: رحلة البحث عن الدراسات العليا، فما ينبغي لمثلي أن يكتفي بالشهادة العالمية وتخصص التدريس، وهو قادر على أن يرتقي إلى ما هو أعلى منها.

وكان عليَّ رحلة أخرى تعتبر من «الضروريات» كما يقول الأصوليون في تقسيم المصالح التي جاء بها الشرع إلى: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات. إنها رحلة البحث عن عمل أتعيش منه".

 

مساءلة من المباحث حول "النونية"

ولم تنته المضايقات والملاحقات الأمنية التي ارتكبها العسكر تجاه الشيخ عقب خروجه من السجن، حيث ذكر واقعة تعرض لها بعد الإفراج عنه بنحو شهرين، قائلا: "بعد نحو شهرين أو ثلاثة من خروجنا من المعتقل؛ استدعيت من المباحث العامة، والاستدعاء من المباحث العامة لا يحمل وراءه خيرًا في العادة؛ ولذا كنا نتوقع الشر أبدًا من هؤلاء كما عودونا، وصدق الله إذ يقول: {وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗا} (الأعراف:58)؛ لهذا حين استدعوني لم أملك إلا أن أقول: يا رب سلم.

وذهبت إلى وزارة الداخلية في «لاظوغلي»، وهناك أوصلوني إلى إدارة المباحث العامة، وإلى الضابط المسئول عن الإخوان، والمعروف لهم، وهو: أحمد صالح داود، والحق أنه كان رقيقًا معي، وقابلني مقابلة فيها كثير من اللطف، وقال لي: لقد جاءتنا تقارير عنك تقول: إنك ألّفت في السجن الحربي قصيدة طويلة تهاجم فيها الثورة، وتحرض عليها، وكنت تلقيها على الإخوان، وقد حفظوها أو حفظها الكثيرون منهم، وإن هذه القصيدة بمثابة «منشور ثوري» ضد الرئيس عبد الناصر ورجال الثورة، فما قولك في هذا يا شيخ يوسف؟

قلت له: وهل يعقل مثل هذا الكلام؟ وهل كان أمامنا في السجن الحربي فرصة لقول الشعر؟! وهل كان معنا أوراق أو أقلام نكتب بها وفيها هذا الشعر؟! إن أي شاعر ينشئ شعرًا: يحتاج إلى قرطاس وقلم، حتى يقيد خواطره، قبل أن تتبخر، فكيف إذا كانت قصيدة طويلة كما تصفها؟! وأنت تعلم ماذا كانت عليه حالنا في السجن الحربي.

قال: لعل هذا كان في فترة البحبحة الأخيرة!

قلت له: هذه الفترة كنا فيها في غاية الاسترواح والانبساط، ولا توجد حوافز لأي شاعر في مثل هذه الحالة أن يكتب شعرًا من النوع الذي تتحدث عنه.

قال: يعني: أنفي حدوث ذلك.

قلت له: انف، ولا حرج عليك.

وخرجت من عنده، وأنا أحمد الله على السلامة، ولكني ساءلت نفسي: هل ما رددت به على ضابط المباحث جائز شرعًا أوْ لا؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم رخَّص في الكذب في مواضع معينة؛ لضرورات وحاجات خاصة، ومنها: الكذب في الحرب، فإن الحرب خدعة.

ونحن في حالة أشبه ما نكون بحالة الحرب مع رجال الثورة، وإن كانت حربًا من جانب واحد، فهم الذين يحاربوننا ويطاردوننا في كل مكان. على أني لم أستعمل الكذب صراحة في ردي، ولكني استخدمت المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. فكل ردي كان بصيغة الاستفهام: هل يعقل كذا؟ وهل كان معنا ورق وقلم ... إلخ؟ وماذا يصنع الإنسان أمام هؤلاء الجبابرة المستكبرين إلا أن يلوذ بالإنكار؟ فإن كنت معذورًا، فالحمد لله، وإن كنت مخطئًا، فأستغفر الله.

وأود أن أقول هنا: إن النونية بدأت تنتشر بين المهتمين بهذا اللون من الشعر، والذي نشرها بعض الإخوة من رواة القصيدة، الذين أفرج عنهم، وكانوا يروونها لمن يثقون به. حتى إن الأخ الصديق، الشاعر الأديب، ابن دار العلوم: عبد الحفيظ صقر، أخبرني أن الشاعر الذي ذاع صيته في الآفاق هاشم الرفاعي، وكان زميلًا له وقريبًا منه، كان يحفظ كثيرًا من أبياتها ويرددها. وممن كانوا يحفظونها ويستشهدون بها في خطبهم من الخطباء المرموقين قبل نشرها في ديواني «نفحات ولفحات»: الخطيب المفوّه: الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله".

 

رحلة البحث عن الدراسات العليا

حصول العلامة القرضاوي على الدراسة المهنية والشهادة العليا لم يكن طريقًا ممهدت بل تعرض إلى تعنت كبير حرمه لعدة سنوات من الحصول على حلم باستكمال دراسته في الأزهر،  بسبب مواقفه السياسية وأفرد لها جزءًا من مذكراته، حيث قال:  كان من مطالبنا - نحن شباب الأزهر - ونحن طلاب في المعاهد الثانوية: أن يُعاد فتح باب الدراسات العليا لطلاب الأزهر؛ ليجد المتفوقون والنوابغ فيها ما يحقق آمالهم، ويرضي طموحهم المتوثب، فليسوا أقل من غيرهم من زملائهم في الجامعات المصرية الأخرى من جامعات الدولة، مثل جامعتي القاهرة والإسكندرية.

وشاء الله ألا يُستجاب لطلبنا، ويعاد فتح الدراسات العليا من جديد، إلا ونحن وراء الأسوار، في السجن الحربي. فقد افتتحت منذ بداية السنة الدراسية (1955م - 1956م)، فلما خرجنا في النصف الثاني من شهر يونيو سنة 1956م؛ كان أول ما شغلني هو قضية الدراسات العليا، فما كدت أقضي أيامًا في القرية للسلام على الأهل والأقارب؛ حتى أسرعت الرحيل إلى القاهرة؛ لأبحث في إمكان لحاقي بركب الدارسين في تخصص المادة، وهل يمكن أن يسامحوني في تأخر التقديم نظرًا لظروف الاعتقال؟

وكان عميد كلية أصول الدين الفقيه العلامة الشيخ محمد عليّ السايس رحمه الله، فذهبت إليه، ودخلت عليه، وعرفته بنفسي، وشغفي من قديم بالدراسة العليا، وأني أستطيع أن ألتحق الآن بإخواني في السنة الأولى، وأن أدخل معهم الامتحان المقرر في سبتمبر أو أكتوبر. حتى لا تضيع عليّ سنة لا ذنب لي فيها.

فقال الشيخ برقة ولطف: يعلم الله يا بني أني متعاطف معك غاية التعاطف، ولو كان الأمر بيدي لقبلتك منذ الساعة، ولكنا تحكمنا أنظمة حديدية لا تلين لأحد، ولا نملك إلا أن ننفذها ونخضع لحكمها، وهذه الأنظمة قد حددت مواعيد للقبول لا يجوز اختراقها، وقد انتهت منذ العام الماضي. فما عليك إلا أن تصبر الشهرين أو الثلاثة القادمة، وتقدم طلبك في الموعد المحدد أول السنة الدراسية القادمة. وتحتسب السنة التي ضاعت منك عند الله تعالى، الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة، بجملة ما ضاع منك بسبب ما نزل بك من ابتلاء، وأنا مؤمن بأن الله تعالى سيعوضك خيرًا عما فاتك، حسب سنته في خلقه. وكانت كلمات الشيخ بردًا وسلامًا على صدري، وأزاحت عن نفسي همًّا كنت أشعر به من ضياع فرصتي بلا جرم مني

 وعلمت أن الجامعة العربية افتتحت معهدًا للدراسات العالية، يعطي «دبلومًا» عاليًا في عدة شعب، ويمكن الحصول منه على الماجستير.

وأجبرت أن أختار أحد القسمين: قسم التاريخ الذي يشرف عليه المؤرخ الكبير الأستاذ الدكتور شفيق غربال أو قسم الدراسات الأدبية واللغوية الذي يشرف عليه الناقد الكبير الأستاذ الدكتور إسحاق موسى الحسيني، والذي عرفناه من قبل من كتابه: «الإخوان المسلمون: كبرى الحركات الإسلامية الحديثة».

وبعد استخارة واستشارة - وما خاب من استخار، ولا ندم من استشار - اخترت قسم اللغة والأدب، وقد انتهيت من دبلوم المعهد بعد أن أكملت دراسة السنتين في أربعة فصول.

فبعد مدة - حين أتيح لنا القبول في الدراسات العليا بالأزهر - أضحى أمامنا: الدراسة بالأزهر، والدراسة بمعهد الجامعة العربية، والدراسة بمدارس «فاكس»، والعمل الصباحي بوزارة الأوقاف، فلم نجد الوقت الكافي لهذه الأعباء كلها، فاضطررنا أن نتوقف عن الاستمرار في مدارس «فاكس».

 

الدراسات العليا بالأزهر

بعد أن أُجِّل امتحان طلبة السنة الأولى في الدراسة العليا بالأزهر إلى صيف 1957م، وضاعت عليهم - وعليَّ معهم - سنة كاملة؛ أُجري لهم الامتحان، ونجح من نجح، ورسب من رسب، وأصبح في مقدوري أن أتقدم بطلبي للالتحاق بالشعبة التي أريد. أيّ الشعبتين أختار؟ وقد كان بكلية أصول الدين شعبتان، عليَّ أن أختار إحداهما، لأقدم طلبي إليها: شعبة علوم القرآن والسنة «أو التفسير والحديث»، وقدمت إلى كلية أصول الدين في شعبة التفسير والحديث وعلومه.

 

تسجيل رسالة الماجستير عن الزكاة

وبعد العناء في السنوات الثلاث؛ التي تسمى: «تمهيدي دراسات عليا»!، واستقر اتجاهي إلى موضوع يتصل بالشريعة وفقهها، وهو موضوع حول الزكاة، الركن الثالث في الإسلام، وهو ما ترجّح لي اختياره وتقديمه إلى الكلية بعنوان: «الزكاة في الإسلام، وأثرها في حل المشاكل الاجتماعية».

وقد تقدمت بموضوعي إلى إدارة الكلية مشفوعًا بخطة البحث، وعينت لي الكلية مشرفًا هو شيخنا الشيخ أحمد عليّ، أستاذ التفسير وعلوم القرآن.

 

رحلة البحث عن عمل

الرحلة الأشد صعوبة التي واجهت الدكتور يوسف القرضاوي هي رحلة البحث عن العمل والتعيين في الأزهر على الرغم من تفوقه، قائلا:"  ثم كان أول ما اتجهت إليه: أن أقدم أوراقي إلى إدارة الأزهر؛ لأعين في معاهده مدرسًا، فقد كنت عينت قبل الاعتقال، ولكني لم أتسلم العمل، فسقط حقي، على أني لو كنت تسلمته؛ لفُصلت منه، كما فُصل كثير من إخواني. أما المسجد الذي كنت أخطب فيه في مدينة المحلة - وهو مسجد أهلي ضم إلى وزارة الأوقاف بعد - فقد فصلوني منه لغيابي.

وبعد تقديم أوراقي إلى الأزهر انتظرت نحو أسبوعين أو ثلاثة؛ وإذا إدارة الأزهر تعلق كشفًا بالمقبولين للتعيين في معاهدها، وكان أول اسم في الكشف هو: اسمي. فقال لي الموظفون المختصون: لقد كان اسمك أول الأسماء المرشحة؛ لأنك حاصل على أكبر مجموع في المتقدمين من الكليات الثلاث، سواء في سنة تخرجك أم في هذه السنة. «فقد كان ترتيبي الأول في العالمية، وفي تخصص التدريس»، ولكن هناك عقبة يجب أن تجتازها. قلت: ما هي؟ قالوا: موافقة جهات الأمن «المباحث العامة». فقلت: وقعنا في الفخ. هذه هي العقدة، وعلى كل حال، يقضي الله ما يشاء، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

وبعد أيام جاء الرد من المباحث العامة بحذف اسمي واسم العسال من المعينين، ولاموا الأزهر على إعلانه النتيجة بالأسماء المقبولة، قبل مراجعة جهات الأمن المختصة في وزارة الداخلية؛ ولذا أضحى المعمول به بعد ذلك: إرسال أسماء المعينين أولًا إلى الداخلية، فمن قبلته منهم أُعلن عنه، وإلا فلا.

وقد أعلمونا أن أي عمل يتصل بالجماهير هو محظور علينا، فلا نطمع يومًا أن نُعيَّن مدرسين أو وعّاظًا في الأزهر، أو خطباء في وزارة الأوقاف؛ لأن هذه الأعمال لها تأثيرها في الجمهور، ونحن غير مأمونين عليها".

 

البحث في المدارس الخاصة

خضت رحلة كبيرة للبحث عن عمل في المدارس الخاص وقراءة الجرايد، وهذا ما جعلني أقول عبارة تناقلها الإخوة الزملاء بعد ذلك، وهي: أبأس الناس: الموظفون، وأبأس الموظفين: المدرسون، وأبأس المدرسين: مدرسو اللغة العربية، وأبأس مدرسي اللغة العربية: خريجو أصول الدين والشريعة!

ثم شاء الله تعالى أن أقرأ إعلانًا عن حاجة مدارس الشرق الخاصة بالزمالك والمنيرة - وتوكلت على الله وقدمت الطلب لمدير المدرسة بالزمالك، وجلست أنتظر ماذا يقول المدير بعد أن يقرأ الأوراق، ولم أكن أتوقع إلا أن يعتذر كما اعتذر إخوة له من قبل.

ولكني فوجئت بمن يناديني باسمي، ويقول لي: إن المدير يطلبك، وقد رحّب بي، وقال لي: يا شيخ يوسف، نحن عادة لا نقبل خريجي أصول الدين في تدريس اللغة العربية؛ لأنهم في الغالب غير متخصصين، ويبدو ضعفهم في التدريس، ولكني حين نظرت في أوراقك وجدت أنك أول زملائك في الشهادة العالية من كلية أصول الدين، كما أنك أول زملائك في العالمية مع إجازة التدريس، وهذا يدل على أنك شخص متميز، ولست بالرجل العادي؛ ولهذا سأخرق القاعدة وأقبلك مدرسًا بمدرستنا على مسؤوليتي".

 

تغيير الزي الأزهري

بعد قبولي نصحني المدير المالي بالمدرسة بتغيير الذي بما يتماشى مع سكان منطقة الزمالك وبعد مشوارات اقتنعت بالتغيير، وبالفعل اشتريت قطعتين من الصوف المحترم، ثم سألت بعض الإخوة عن «الترزية» المعروفين بالتفنن والإتقان.

وأول ما لبست هذه الحلة؛ شعرت كأني إنسان آخر، لم يعد هو الشيخ يوسف القديم، وخيّل إليَّ أن الناس كلهم ينظرون إليَّ، ويقولون: هذا هو الرجل الذي غيّر زيه، وتزايد هذا الشعور عندي عندما ذهبت إلى قريتنا، ورآني أهلها لأول مرة بهذا الزي الجديد.

ولكن سرعان ما أمسى هذا أمرًا مألوفًا، وتعود الجميع عليَّ بهذا الزي الجديد، وقال كثيرون: إنه لائق عليك، وملائم لك، ربما أكثر من الجبة والعمامة! ومهما يكن فالواقع يفرض نفسه. والمرء ليس بزيه وليس بشكله، بل بعلمه وعمله".

 

تعطل العمل بسبب الحرب

المهم أن مدارس الشرق الخاصة عطلت كما عطل غيرها من المدارس. ومعنى تعطيلها: أن لا راتب لنا نقبضه منها، كما يقبض المدرسون في مدارس الحكومة ، ثم رأيت أن الأصلح لي أن أدعها إلى القرية، فالمعيشة في القاهرة تكلفني وتتعبني، وفي القرية لا أتكلف شيئًا، فأنا آكل مما تأكل العائلة.

 

رفض العمل بالأزهر

وما هي إلا أيام حتى جاءتني برقية من وزارة الأوقاف تطلب إليَّ أن أحضر بسرعة إلى القاهرة لأتسلم منبر الأزهر؛ لرفع الروح المعنوية في الشعب في هذه المرحلة الخطيرة في تاريخ مصر، وكان هذا بتوجيه من شيوخنا: البهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، الذين أشاروا على الشيخ الباقوري أن يستدعيني للأزهر.

 بيد أني لم أتجاوب مع هذه البرقية، وقلت في نفسي: إنهم يستنجدون بي الآن، حتى إذا انكشفت الغمة طرحونا وراءهم ظهريًّا!

ولما لم أرد عليهم؛ كلفوا شيخنا الشيخ محمد الغزالي الذي اعتلى منبر الأزهر، وظل يخطب فيه عدة سنوات".

 

الموافقة على الخطابة بمسجد الزمالك

وقد كان الشيخ الغزالي يخطب في جامع الزمالك الكبير، فخلا مكانه، فأرسلوا إليَّ في القرية أحد الإخوة ليبلغني بضرورة الاستجابة إلى طلب الأوقاف وإلحاحهم في أن أحل محل الشيخ الغزالي في مسجد الزمالك، واستجبت إلى رغبة شيوخنا، وسافرت إلى القاهرة، وتسلمت مسجد الزمالك لأخطب فيه، بمكافأة قدرها اثنا عشر جنيهًا، وعرف الكثيرون ذلك، فبدأ الناس يتوافدون على المسجد من أنحاء القاهرة وضواحيها، بل من خارج القاهرة أيضًا، وقد كانت إذاعة القاهرة تذيع منه خطبة الجمعة كل عدة أسابيع. وكان الذي يضايقني من إذاعة الخطبة: أنهم يطلبونها مكتوبة قبل أن تذاع، ويريدونني أن أقرأها عند إذاعتها، وأنا لم أتعود أن أقرأ الخطبة من ورقة؛ ولهذا كنت أحيانًا أخرج على النص، وأرتجل كلمات من عندي، وقد لاحظوا ذلك يومًا فلفتوا نظري إلى ذلك.

وظللت أكثر من سنة أخطب الجمعة بمسجد الزمالك، حتى بعد أن انتهت الحرب، ولاحظ رجال المباحث العامة أن المسجد أصبح يمثل مدرسة دعوية متميزة بخطَبه، وبالحلقات التي أعقدها بعد كل خطبة أجيب فيها عن أسئلة الناس، وأمسى الناس يفدون إليه من كل صوب وحدب.

وكثيرًا ما رأيت مخبري المباحث يلاحقون الناس ويسألونهم عن أسمائهم ووظائفهم. حتى إنهم مرة لاحقوا أحد الذين صلوا معي، ثم جاء يسلم عليَّ في حجرة الإمام، وقلت للمخبر: هذا سعد الدين بك خضر عضو مجلس الشعب عن دائرتنا صفط تراب! فأسقط في يد الرجل. وأخيرًا ضاق صدرهم، ونفد صبرهم، فأجبروا الأوقاف أن تمنعني من الخطابة، فقد انتهت مهمتي بعد أن أصرت أمريكا على دول العدوان الثلاثي أن تجلو عن مصر. وهذا ما كنت أتوقعه منهم.

 

العمل بالأزهر

عقدت مسابقة لتعيين وعّاظ بالأزهر، وأئمة وخطباء بالأوقاف، وقدمت فيها أنا وعدد من الإخوان، ونحن نعلم أننا ممنوعون من الوظائف المتصلة بالجماهير، ومنها: الخطابة والوعظ، ولكن قلنا: لن نخسر شيئًا إذا قدمنا، فربما نجحنا وقبلنا.

ودخلنا الامتحان دخول من لا يعتقد أن وراءه جدوى، وسرعان ما ظهرت النتيجة، وقد نجح فيه عشرة من الإخوان: أنا، والعسال، وسليمان عطا، وعبد الرؤوف عامر، وعبد التواب هيكل، ومحمود جودة، وعبد الحميد شاهين ... إلخ.

وبعد نجاحنا كان للشيخ الباقوري وزير الأوقاف موقف رجولة وإنسانية لا ننساه؛ وهو أنه عارض رجال الأمن، وقال: أنا سأعينهم على مسؤوليتي، في أعمال غير الخطابة والتدريس. وفعلًا كانت وظيفتنا الرسمية: الإمامة والخطابة، ووظيفتنا الفعلية التي انتدبنا لها - نحن العشرة - العمل بقسم النظار والأوقاف، ومقره سطوح وزارة الأوقاف.

 

بعثة رمضانية إلى العريش

وكان لوزارة الأوقاف بعثات في شهر رمضان من كل سنة تبعث فيها عددًا من المتميزين من أئمتها وخطبائها ومفتشيها إلى بعض البلاد العربية والإسلامية، وبعض الجاليات الأوروبية والأمريكية، وتعطيهم مكافآت لا بأس بها، تنعشهم وتقضي بعض حاجاتهم.

ونظرًا لظروفي الأمنية، لم يكن من الممكن أن يكون لي حظ في هذه البعثات الخارجية ،ولكن كانت هناك بعثات داخلية داخل مصر إلى الصحراء الشرقية «سيناء»، والصحراء الغربية «السلوم» وما حولها. ورشحتني الوزارة للذهاب إلى سيناء وعاصمتها العريش.

 

 الزوجة الصالحة

انتهت رحلة البحث عن العمل الذي أكسب منه لقمة العيش الحلال، لأدخل في رحلة أخرى هي رحلة البحث عن بنت الحلال، شريكة الحياة.

وفي أثناء بحثي عثرت على فتاة رأيتها ضالتي التي أنشدها، كانت تدرس معي في معهد الدراسات العربية العالية، وفي قسم اللغة والأدب الذي أدرس فيه، لكن لم أوفق بالزواج منها، وقلت هنا ما يقوله الناس في هذا المقام: الزواج قسمة ونصيب، ثم رشح لي الأصدقاء العديد من الفتيات منهم من لم تتوفر فيهم الشروط التي وضعتها لشريكة حياتي ومنهم من اعتذروا بلطف.

وبعد هذا المشوار الشاق الحافل بالمحاولات الفاشلة: جاء الفرج والتيسير من الله، الذي قضت سنته أن تجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الليل فجرًا، فرشح لي الأخوة فتاة، وهي سعاد أخت الأخ سامي عبد الجواد الذي كان زميلا لي في السجن، واسترحت إليه، لما لمست فيه من ذكاء وإخلاص ونشاط وبشاشة وجه، وحسن خلق، وحضور شخصية، ولم أكن أحسب أن القدر سيربط بيننا بمصاهرة أبدية، وأنه سيصبح الخال الأكبر لأولادي؛   وكنت قد وضعت لمن أختارها أربعة شروط، وهي: العائلة، والجمال، والثقافة، والأشقاء، لعل الله جلَّ ثناؤه يكون قد كتبها لي.

 

الزواج والأبناء 

ذهبت إلى سمنود - بالقرب من العروس وقضيت يومين كانا من أسعد الأيام في حياتي، ذهبت إلى قريتي صفط تراب، لأدعو الأقارب والأحباب والمهمين من أهل القرية لحضور عقد القران في سمنود في عصر يوم (31/7/1958م) .

وما هي إلا أسابيع حتى حملت زوجي بابنتي البكر «إلهام» والتي وضعتها عند أهلها في سمنود، لتكون تحت رعاية والدتها. وذلك في (19/9/1959م) وملأت علينا الطفلة الصغيرة بيتنا بهجة وفرحة وحركة.

ولم يكد يمر شهران حتى حملت زوجتي بابنتي الثانية سهام التي ولدت بالقاهرة في 5 سبتمبر 1960. أي قبل أن تكمل إلهام سنتها الأولى.

أما أولادي الخمسة الآخرون: «علا، وأسماء، ومحمد، وعبد الرحمن، وأسامة»، فقد ولدوا في دولة قطر.