سليمان صالح

إن دراسة تاريخ الحروب الصليبية بعمق يمكن أن يضيء لنا طريق المقاومة، ويفتح لنا مجالات جديدة للإبداع وإنتاج الأفكار التي يمكن أن تساهم في زيادة قوة الأمة الإسلامية، وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.

هذا التاريخ يوضح لنا استمرارية الصراع، فالمشروع الصهيوني هو امتداد للمشروع الصليبي، والمشروع الاستعماري، وأن الأمة الإسلامية تستطيع –مهما كانت قسوة الواقع– أن تبني مشروعها الحضاري لتحرير فلسطين، ولكي تتمكن الأمة من تحقيق هذا الهدف العظيم يجب أن تشجع العلماء والباحثين على دراسة تجربة صلاح الدين الأيوبي.

الرأي العام وإستراتيجية التحرير 

من أهم المجالات التي يمكن أن تفتحها لنا دراسة تاريخ الحروب الصليبية دور الرأي العام الإسلامي في تحرير القدس، وكيف يمكن تشكيل رأي عام إسلامي في المستقبل.

عندما تمكن الصليبيون من احتلال القدس، كان حكام المناطق في العالم الإسلامي قد بلغوا درجة من الفرقة والتشرذم لم يعرفها تاريخ المسلمين، وكان هدفهم الوحيد هو المحافظة على حكمهم، لذلك حاولوا إخفاء الحقائق عن المذابح التي ارتكبها الصليبيون في المسجد الأقصى، ومنع وصول المعلومات إلى الجماهير حتى لا تتم إثارة مشاعر المسلمين، ومطالبة الحكام بإعلان الجهاد.

بالرغم من ذلك، بدأت الحقائق تنتشر في العالم الإسلامي نتيجة فرار عدد كبير من اللاجئين من الشام إلى مصر والعراق وبلاد العالم الإسلامي الأخرى، وقيامهم باستخدام المساجد لتوعية المسلمين، ونقل المعلومات لهم عن تخاذل الأمراء في مواجهة الصليبيين.

لكن هناك بعض الأمراء الذين شجعوا اللاجئين الذين شاهدوا المذابح على وصفها للجمهور مثل عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وأدي ذلك إلى زيادة قوة الرأي العام.

وبالرغم من أن الرأي العام الإسلامي بدأ يتشكل، وساهمت المعلومات التي تم نقلها عن المذابح التي ارتكبها الصليبيون في المسجد الأقصى -التي قتل الصليبيون خلالها 70 ألفاً من العلماء وطلاب العلم- إلا أن تأثير الرأي العام لم يصبح فاعلاً في إدارة الصراع إلا عندما تمكن صلاح الدين الأيوبي من حكم مصر، وأدرك أن أهم أسلحته هو تشكيل الرأي العام في كل البلاد الإسلامية.

كان من أهم الأدلة على أن صلاح الدين الأيوبي يمتلك قدرات إستراتيجية متميزة ناتجة عن دراسته لتاريخ الإسلام، أنه أدرك أهمية الرأي العام، لذلك وجه العلماء إلى القيام بدورهم في توعية الجماهير وتعبئتها لتحقيق الوحدة الإسلامية، وإعداد الأمة لتحرير فلسطين.

العلماء قادة رأي

ولقد قام العلماء في عهد صلاح الدين بدور قادة الرأي الذين تلقوا الرسائل من صلاح الدين، وعدد كبير من العلماء الذين تجمعوا حوله، وقاموا بنقلها إلى الجماهير.

وفي الوقت نفسه، أنتجوا الكثير من الرسائل التي تحفز الأمة، وتعالج آثار الهزيمة النفسية التي تعرض لها المسلمون بعد احتلال الصليبيين للقدس.

إن تراث العلماء في تشكيل الرأي العام في فترة حكم صلاح الدين يمكن أن تشكل ثروة فكرية وثقافية وحضارية للأمة الإسلامية، ويمكن استثمارها في تجربة جديدة لمواجهة "إسرائيل"، وتحرير فلسطين.

هذه التجربة توضح الدور الذي يقوم به العلماء كمنتجين للمعرفة وكقادة للرأي، وأن هذه المعرفة كانت أهم الأسلحة التي استخدمها صلاح الدين الأيوبي، وهذا يوضح أهمية إعادة بناء وظيفة العلماء ودورهم في تشكيل الرأي العام، وتوعية الأمة.

ولقد انتشر العلماء في العالم الإسلامي، ويمكن دراسة تجارب الكثير من العلماء مثل أبي سعد الهروي الذي قاد مجموعة من علماء الشام، وذهبوا إلي بغداد، وانتشروا في مساجدها، وقاموا بتعبئة الجماهير عن طريق وصف المذابح التي ارتكبها الصليبيون.

هذه التجربة ألهمت العلماء، وأوضحت لهم أنهم يمكن أن يقوموا بدور مهم ووظيفة حضارية، وأنهم يمكن أن يشكلوا رأياً عاماً إسلامياً.

هناك تجربة أخرى مهمة تستحق الدراسة، حيث وجه صلاح الدين الأيوبي، ابن شداد لتأليف كتاب "فضائل الجهاد" الذي استخدمه العلماء كرسالة نقلوها إلى الجماهير في المساجد، وهذا يوضح أن العلماء والخطباء قاموا بحملة إعلامية واتصالية وثقافية اعتمدت على نقل رسالة موحدة، ثم انطلق العلماء يشرحونها للجماهير بأساليب متنوعة تتناسب معهم، كما قاموا بإنتاج الكثير من الأفكار التي شكلت ثراء معرفياً وثقافياً.

رأي عام في مجتمع معرفة

يوضح ذلك أن العلماء في عهد صلاح الدين أعادوا للأمة اهتمامها بالمعرفة كأساس لبناء القوة، واستثمار الثروة البشرية التي تتميز بالعلم، لذلك كان الجيش الذي أعده صلاح الدين يتشكل من رجال حصلوا على قدر كبير من المعرفة التي نقلها لهم العلماء، وملؤوا بها قلوبهم وعقولهم، فانطلقوا كأصحاب رسالة ووظيفة حضارية يعملون لتحقيق الهدف، ويحققون إنجازهم ومشروعهم الحضاري وهو تحرير القدس.

سلوك جيش صلاح الدين يوضح أنه كان نتيجة لعملية تربية وتعليم قام بها العلماء نقلوا خلالها المعرفة للناس.

لذلك، فإننا يمكن أن نطور دراسة التاريخ بحيث لا تقتصر على رصد الأحداث وتوثيقها، ولكن يجب أن نصف عملية التحول التي حدثت للمجتمع ونفسرها، ففي ضوء هذه العملية يمكن أن نفهم كيف أصبح تحرير القدس هو هدف الحياة لجميع الناس في المجتمع، وكيف تبرع الناس بكل ما يملكون، وكيف تبرعت النساء بكل ما يملكن من ذهب، حتى أصبحت المرأة التي كانت ترتدي الحلي الذهبية يتم النظر إليها بقدر من الازدراء والاحتقار.

هذا يوضح أن صلاح الدين كان قائداً لعملية تغيير مجتمعي قبل أن يكون قائداً لمهمة هي تحرير القدس، وأنه تمكن من توجيه العلماء للقيام بوظيفة نشر المعرفة وتوعية الأمة وتعبئتها وإعدادها لتحقيق الإنجاز الحضاري.

التغيير بالمعرفة

يوضح ذلك أن قيادة التغيير يجب أن تستخدم المعرفة، فالشعب الذي يحصل على المعرفة هو الذي يتمكن من تغيير نفسه وتغيير الواقع.

وبناء الرأي العام هو نتيجة لعملية تغيير باستخدام المعرفة، لذلك فإن العلماء يمكن أن يبنوا لأنفسهم وظيفة مهمة في المجتمع هي تعبئة الجمهور لتحقيق هدف، وتشكيل الرأي العام.

وفي الوقت نفسه، فإن القائد الذي يقود العلماء هو الذي ينجح في تحقيق مهمة عظمى كتحرير فلسطين، وهذا هو ما توضحه شخصية صلاح الدين الأيوبي، وطبيعة الجيش الذي شكله، وسلوك هذا الجيش في المعركة.

كما أن القائد الذي يقود العلماء هو الذي ينجح في تغيير الواقع، وبالتأكيد فإن الواقع الذي واجهه صلاح الدين كان المسلمون فيه أكثر ضعفاً وفرقة من الواقع الحالي، لكنه نجح في تغييره.

صلاح الدين يقود مجتمع المعرفة

والمعرفة التي وفرها العلماء للجماهير قامت بوظائف، من أهمها:

1- شحذ الهمم وتقوية القلوب.

2- الإصرار على تحقيق الهدف العظيم.

3- تشجيع الناس على بذل كل جهدهم وما يملكون لتحقيق الهدف.

4- تشجيع الناس على الابتكار والإبداع، وإنتاج أفكار جديدة تساهم في تحقيق النصر.

5- تشجيع الناس علي نقل المعرفة للآخرين، وفي هذه المرحلة تحول عدد كبير من الناس إلى قادة رأي قاموا بنقل المعرفة وشرحها وتحفيز الناس وتعبئتهم.

6- تشجيع الناس على التكافل الاجتماعي، وهو ما يطلق عليه في هذا العصر إعداد الجبهة الداخلية، واستخدام كل موارد الدولة واستثمارها.

هذا يعني أن صلاح الدين بنى مجتمع المعرفة، وقاد هذا المجتمع لتحقيق المهمة، وساهم العلماء في قيادة عملية التغيير.

إن قوة صلاح الدين وتميزه كقائد تتمثل في إدراكه لأهمية المعرفة، وتوظيفه للعلماء وقادة الرأي لتحقيق تغيير مجتمعي، وبناء مجتمع المعرفة، واستثمار الرأي العام.

وهكذا واجه الصليبيون في حطين أمة استخدمت موروثها الحضاري، وما تمتلكه من معرفة لتحقيق إنجازها العظيم.. ولذلك لم يتمكن الصليبيون من الصمود في مواجهة رجال يقاتلون بعقولهم وقلوبهم وعزائمهم وإيمانهم وسيوفهم، وهذا يشبه تجربة المسلمين خلال القرن الأول، التي تمكن المسلمون فيها من هزيمة الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية.

لكن هل التجربة قابلة للتكرار؟ إن الأمة عندما تدرس تاريخها وتستثمره في بناء مجتمع المعرفة تجعل العقول تبدع وتبتكر وتنتج أفكاراً جديدة تتناسب مع العصر، وبذلك يمكن أن تكرر تجاربها التاريخية بأساليب جديدة.

لكن أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها من هذه التجربة أن المهمة تحتاج إلى قيادة تقوم بعملية تغيير، وتوفر المعرفة للجماهير، وتشكل الرأي العام الإسلامي.

وهذا العصر يوفر وسائل مهمة يمكن استخدامها في بناء مجتمع المعرفة، وتشكيل الرأي العام من أهمها وسائل الإعلام التي يمكن استخدامها بشكل متكامل مع الاتصال المباشر، وتطوير وظائف قادة الرأي.

كما أن تشكيل الرأي العام الإسلامي يمكن أن يكون مصدراً مهماً للقوة، ويساهم في تغيير الواقع.

إن التجربة يمكن أن تتكرر والغرب يدرك ذلك جيداً، ودراسة التاريخ يمكن أن توضح لنا إمكانات تطوير التجربة، واستخدام الإمكانات التي يوفرها العصر لنشر المعرفة واستثمار الثروة البشرية.

………..

نقلا عن مجلة "المجتمع"