مجدي مغيرة

هناك هزائم لا يتعدى أثرُها بعضَ الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنين ، يعيش فيها الجيش والشعب والدولة أياما قاسية ، لكن تلك الأيام القاسية وهذه الهزيمة المذلة ،سرعان ما تكون سببا في نصر مجيد كان وقودُه الرغبة القوية في الثأر ، ودافعه محو العار الذي لحق بالأمة .

وفي المقابل هناك هزائم أخرى تكون مقدمة لانهيار كبير ، أو – مثلما هو حال مصر تحت حكم جمال عبد الناصر -  تكون كاشفة عن انهيار كبير تم منذ زمن لكنه كان خافيا على الناس لا يدرون عنه شيئا حتى أتت الهزيمة العسكرية ؛ فأظهرت للناس ما كان خافيا ، وبينت حقيقة كان الناس يعتقدون عكسها بسبب الدعاية والإعلام ، وبسبب الرعب الذي استقر في النفوس من جراء الظلم الواقع على الشعب من قتل وسجن واعتقال وتعذيب ، وبسبب سيطرة الدولة على كل مجالات الحياة من وظائف وأعمال ومشاريع وتقنين وقضاء وثقافة ومن مؤسسات دينية ومؤسسات تعليمية .... إلخ .

وكانت هزيمة يونيو 67 من هذا النوع ، فقد كشفت ضعف الدولة ضعفا بالغا في أغلب نواحي الحياة ، فقد كان مكان رجال مصر و أحرارها في السجون والمعتقلات والمنافي ، ومن نجا من ذلك فقد آثر الصمت المطبق حتى لا يأتيه الموت من حيث يدري أو من حيث لا يدري .

وكان الاقتصاد قد تدهور بفعل المغامرات العنترية  داخل مصر وخارجها ، ويكفي أن تعرف أن مغامرة واحدة وهي حرب اليمن قد جعلت خزينة الدولة خاوية من الذهب ، مما ترتب عليه انهيار سعر الجنيه المصري أمام الدولار ، وانهيار الخدمات المقدمة للجمهور .

فضلا عن انهيار الأخلاق وانحطاط القيم التي هي العنصر الأساسي لتماسك المجتمعات والحفاظ عليها ، وضمان استمرارها .

ومع كل هذه الانهيارات كان الشعب المصري - بفعل عمليات الدعاية وغسيل المخ -  يعتقد أنه يتقدم إلى الأمام ، وصار يُصَنِّعُ كلَّ شيء في بلده من الإبرة حتى الصاروخ ، وأن زعماء العالم كله - وخصوصا قادة إسرائيل - يعيشون رعبا هائلا من الزعيم المصري الذي عقمت الأمهات من لدن آدم وحتى وقته أن يلدن مثله.

وأن تحرير فلسطين كل فلسطين سيتم على يد هذا المغوار الذي سيقذف بإسرائيل إلى البحر .

أتت هزيمة يونيو 67 لتكشف للمصريين الأوهام التي عاشوها ، وهدمت لهم الأساطير التي بنوها ، وأثبتت لهم بالدليل العملي أن مصر على يد العسكر وزعيمهم جمال عبد الناصر قد ضاعت هيبتها ، وتمرغت كرامتها في التراب ، وصار شرفها مهانا تحت أقدام اليهود ، وأن تضحياتهم من أجل الوطن ، ومن أجل التقدم ، ومن أجل التحرير ، ومن أجل العيش الكريم قد ضاعت هباء .

وفي المقابل كانت دويلة إسرائيل مازالت تعيش تحت خطر عظيم ، لم تثبت أقدامها بعد على الأرض ، وما زال خطر الزوال يتهددها ؛ فأتت حرب 67 لتثبت أقدامها ، ولتجعلها دولة قوية مرهوبة الجانب ، وصار جيشها الجيش الذي لايُقْهر ، بل وصارت تملي إرادتها على الجميع ، وما على زعماء العرب سوى الاستجابة لما تريد ، وإظهار تلك الاستجابة الذليلة لمطالبها أمام شعوبهم بأنها دليل على ذكاء  العقل ، وعمق التفكير، وبعد النظر ، وتحقيق لرخاء سمعنا عنه كثيرا لكن ما رأينا على أرض الواقع سوى الفقر والذل والضنك .

نتذكر هزيمة 67 اليوم ونحن في حال أسوأ ، إذ تنحدر البلاد يوما بعد يوم إلى مهاوي الضعف والانحلال ، وتتفكك عرى المجتمع ، وتتفسخ روابطه ، وينهار اقتصاده ، ويتم الزج بعلمائه ومفكريه وأحراره في أعماق سجون أشبه ما تكون  بالقبور ؛ مما ينذر بكارثة يعلم الله تعالى وحده كيف ستقع أو كيف سننجو منها !!!

مازالت أسباب هزيمة 67 باقية كما هي : استبداد وسرقة ونهب لمقدرات الشعوب من قبل الأنظمة ، وضعف وخوف واستكانة من قبل الشعوب ، وسيطرة شاملة للعدو على كل شيء في بلادنا .

إن استمرار الأوضاع على ما هي عليه يعني أننا مقبلون على انهيار كبير ، وإن انتظار أن يأتي الفرج  ونحن قاعدون متفرجون لهو انتظار المستحيل بعينه ، وما أحرانا بالتأمل العميق في آيات سورة المائدة التي وضحت أن النصر والفرج لا يأتي إلا بأن يأخذ القوم زمام المبادرة بعد التوكل على الله تعالى ، وبدون ذلك سيستمر ضعفهم ، وسيستمر ذلهم ، تأمل معي الآيات الكريمة  من سورة المائدة : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) } .

 
 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر