عزت النمر :
 

لم يتوقف الجدل ويبدو أنه لن يتوقف حتى تضع حرب الإستفتاء التركي أوزارها، مسار الجدل حول ما إذا كانت التعديلات الدستورية تحقق حلم الرئيس أردوغان أم أنها بالضرورة تدعم حلم الشعب التركي في مزيد من التقدم والازدهار والرفاه.

زيارتي القصيرة لتركيا التي بَدَأُتها قبل أمس من أحد مدن الجنوب جعلتني أعيش إثارة ساعات الحسم الأخيرة لتلك التعديلات الدستورية التاريخية.

مدينة "أضنة" ليست من مدن التأييد لأردوغان ولا تعديلاته، ومع ذلك فإن أول ما يلحظه القادم لها هو سخونة الحدث؛ لافتات الرفض تملأ الشوارع الرئيسية والميادين، لكنها على كل حال نقطة في بحر الدعاية المؤيدة للتعديلات المرتقبة.

سائق التاكسي الذي أقلني من المطار في عقده السادس تقريباً ويبدو عليه أنه من البسطاء قليلي الثقافة، رغم ذلك كان حريصاً على دعوتي والتأكيد عليَّ لرفض التعديلات الدستورية.

أدهشني أن رفض السائق المُسِن سببه الخوف من أن تُنهي التعديلات دولة أتاتورك لصالح دولة أردوغان!!. وربما في هذا تلخيص بليغ للواقع التركي واستقطاب اللحظة الحاد فيها.

حاولت بمساعدة رفيقي أن أوضح له أنني أجنبي وليس من حقي المشاركة في الاستفتاء، لكنه أصر على دعوتي للرفض، وفهمت من إلحاحه أن دعاية المعارضة أشاعت زوراً أن الأجانب هم الأكثر استفادة من التعديلات، وأن أردوغان أعطاهم حق المشاركه في الاستفتاء لتأييد مشروعه ودعمه!!.

زيارتي لتركيا سأختمها بقضاء يومين في اسطنبول؛ يوم الاستفتاء بما يُنتظر فيه من أجواء مثيرة، ويوم قبله تسبقني رغبتي في استكشاف عقول أهلها حول الاستفتاء الوشيك.

حساسية الحدث منشأها أنها معركة بين تركيا القديمة وبين تركيا العدالة والتنمية، بين فلول العلمانية وبين العثمانيين الجدد، بين الرئيس الطيب وبين شبح كمال أتاتورك الذي ظل يحكم تركيا من قبره حتى وقت قريب!.

الفوز في الاستفتاء القادم أهم للرئيس أردوغان منه لحزب العدالة والتنمية، وأكبر من مجرد صلاحيات جديدة تضاف إلى سلطاته الحالية، فهو في الواقع يملك سلطات استثنائية خاصةً في وجود رفيقه المطيع "بن علي يلدرم" كرئيس للوزراء.

الرافضون للتعديلات ليسوا جميعاً من معارضي أردوغان ولا معارضي الحزب، بل أن بعضهم من المؤيدين لكل الاصلاحات والإنجازات التي أتى بها الرئيس وحزبه.

وجهة نظر هؤلاء مشروعة ومعتبرة؛ حيث لا يرون ضرورة ملحة لهذا التحول في الوقت الحالي، والبعض يقبل به في وجود الرئيس أردوغان ويتخوف من صلاحيات واسعة تُمنح لمجهول يأتي من بعده.

معارضوا أسلمة تركيا والأعداء الأيدلوجيون للمنحى الأردوغاني هم الكتلة الصلبة والعمود الفقري المناهض للتعديلات، وهم كُثُر في الداخل التركي وأكثر وأعنف في المحيط الإقليمي والدولي.

لا أحد يستطيع أن يؤكد نظام تركيا بعد الاستفتاء الوشيك خاصة مع تقارب استطلاعات الرأي سواء المُعَبِّرة بصدق عن الواقع أو تلك التي تسعى لتوجيه الناخب التركي والتأثير عليه.

الجميع يعرف أن "نعم" للاستفتاء ستُدِخِل الرئيس أردوغان التاريخ من الباب العالي، وستعطي "سلطان" تركيا الجديد أقفالاً يغلق بها على أتاتورك قبره، وستمنحه الوقت الكافي ليستكمل بناء أمجاده على أنقاض الكمالية التاريخية في تركيا.

لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين ما المكاسب التي ينتظرها أعداءه ومعارضوه من "لا" أكثر من الشماتة والمناكفة، وربما إثارة الغبار حول مشروعه الشخصي من غير مشروع آخر بديل للنهوض أو البناء.

ربما في هذا الخلاصة التي تعيشها منطقتنا الواسعة في لحظتها التاريخية الراهنة؛ أننا نعيش استقطاباً حاداً بين مشروعين الأول للبناء وآخر للهدم.

ومن عجب أن راية البناء والحرية والديمقراطية يحملها الاسلاميون وحلفاءهم، أما معاول الهدم ومطارق الاستبداد والقهر فهي في يد العلمانيين وكثير من مُدَّعي الليبرالية وتجار القوميات.

 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر