د. إسماعيل علي ـ الأستاذ في جامعة الأزهر


(1)

الدكتور "أحمد الريسوني" مِن العلماء الذين نَحمِل لهم تقديرًا واحتراما، وتقديرنا لشخصه وعلمه لا يمنعنا أنْ نستدرك عليه في بعض كلامه وفكره.

في حوار منسوب إليه مع "الأيام الأسبوعية" المغربية، ونقَله موقع "عربي 21" (الجمعة 25 نوفمبر 2016)؛ جاء في كلام الدكتور "الريسوني" ما يدعو للعجب مِن الخلط والمجازفة في إصدار الأحكام، بل ما يجعله هو يبدو في ضحالة فكرية فيما يتعلق بالواقع المصري، وإن كان يتهم قيادة الإخوان بالضحالة الفكرية ..

وفي البداية أودّ التأكيد على أنّه لا تثريب على الدكتور "الريسوني" أنْ يتفق أو يختلف مع قرارات الإخوان أو غيرهم، ولكن أمانة العلم والفكر تقتضي بيانَ ما في كلامه مِن خطأ، حتى لا يغترَّ به أحد.

وأولُ ما يلفت النظرَ في الحوار تلك العبارةُ المنسوبةُ إليه، وهي قولُه: "لقد كنتُ مرتاحا جدا لإزاحة مرسي من الرئاسة وفرحتُ لذلك، لأنها كانت رئاسة في غير محلها". ولنا على هذه العبارة ملاحظة شكلية وأخرى موضوعية.

أما الملاحظة الشكلية فيبدو أنها عبارة غير موفّقة في صياغتها، وتفتقر إلى الذوق واللياقة والتأدب الذي يجدر بطلاب العلم، فضلا عن العلماء، بل هي ـ كما يُقال في مصر ـ "جليطة"!! كما أنّ مفرداتِها لا تناسب السياق بحال (مرتاحا ـ جدا ـ لإزاحة ـ مرسي ـ رئاسة في غير محلها) !! يا أخي هوِّن عليك !! هل أعجزتْك القريحةُ عن أنْ تقول مثلا: "لم أَحزن للانقلاب على الرئيس مرسي، فلعله كان خيرا، من باب: لا تحسبوه شرا لكم" ؟؟ لكن يبدو ـ كما يقول المصريون ـ الملافِظ سعد !!

وأما الملاحظة الموضوعية: فإنّ إزاحة الرئيس "مرسي" ليست شيئا يدعو مثلَك أو أيَّ مسلم واعٍ مخلص لأن يفرح لها.

وأنت تعلم أنّ المسلمَ يجب عليه شرعا أنْ يُحبّ لأخيه ما يُحب لنفسه، ويكرهَ له ما يكرهه لها .. هذا أول .. والثاني: تتكلم بتلك العبارة الغير لائقة وكأنك تتكلم عن إزاحة "بن علي"، أو "القذافي"، أو "مبارك" !!!

وأما قولك: "لأنها كانت رئاسة في غير محلها" فهذا خطأ بيِّن، وتدليس ظاهر!! ألم تعلم بأنّ الرئيس "مرسي" حاكمٌ مسلمٌ انعقدَتْ له البيعةُ الشرعية، واعترفَت به الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية رئيسا لمصر.

ألم تعلم بأنّه حاكم مُقسِط لم يفعل ما يستوجب عزلَه شرعا؟؟ هل الرئيس "مرسي" تسلط على رقاب الناس وأبشارِهم، واستولى على السلطة بغير وجه حق؟؟؟


(2)

أما عن موضوع إقدام الإخوان على الترشح للرئاسة؛ فهذه مسألة اجتهادية اتفَقَ معهم فيها مَن اتفَقَ واختلَفَ مَن اختلَف .. ولا مشكلة.

لكنّ الذي يدعو للعجب أنّ كل مَن كان يرى عدم الترشح مِن قبَل الإخوان يتناسى الآن جذور البلاء، ومكمن الداء !! يتناسى أنّ المشكلة في دبابة العسكر، وفي مؤامرة دولية وإقليمية باتتْ ظاهرة لكلّ أعشى، وليس في ترشح الإخوان.

أما الرئيس "مرسي" فقد أبلى بلاء حسنا وحقق من الإنجازات في عامٍ واحدٍ ـ على المستوى الاقتصادي والتعليمي والصناعي ... ـ ما لم يُحققه غيره من رؤساء العرب في سنوات، وضرب مثلا للحاكم المسلم المقسط، الورع المتعفف عن أموال الشعب.

لكن الذي يدعو للغرابة، بل يكشف عن سطحية الدكتور "الريسوني" وضحالته الفكرية في فقه الواقع الذي يتصدى للحديث عنه، وهو الحالة المصرية؛ أنه يقول: "حتى بعد الرئاسة نصحهم بعض الإخوان من الحركة والحزب بأن يتخلى مرسي عن الرئاسة، وأن يدعم الإخوان مرشحا يكون فقط يحترم الحريات والديمقراطية، مثل عمرو موسى أو البرادعي، وهم تعجبوا واستهجنوا هذا الكلام الذي لم يكونوا يرون له مكانا، ولكن الآن يتمنون لو فعلوا ذلك".

ألا تعرف يا دكتور "ريسوني" كُلا مِن "عمرو موسى" الشيوعيِّ العلمانيِّ ربيبِ نظامِ مبارك، والبرادعيِّ العلمانيِّ صنيعةِ الغرب، وأنّ كليهما لا يطيق رائحة الإسلام، ولا يفهم الحرية والديمقراطية أكثر مما يفهمهما "مبارك" وأمثالُه ؟؟!! هل يخفى عليك هذا حقا؛ أمْ أنه لا مشكلة عندك في عودة النظام العلمانيِّ الاستبداديِّ الكارهِ للإسلام والإسلاميين مرة أخرى على يد أمثال "عمرو موسى" و "البرادعي"؟؟

وتزعم أنّ الإخوان الآن يتمنون لو قدّموا أحدَهما؟؟!! أقول ـ آسفا ـ لقد كنا منك في غرور !! يا أخي أنت تعلم أنّ أهل الثغور يفتيهم علماء الثغور .. وأهلَ مكة أدرى بشعابها.

(3)

ثم يقارن الدكتور "الريسوني" بين قيادة الإخوان، وكلٍّ من "الغنوشي" و "عبد الفتاح مورو"، حيث يقرر ـ كما نُسِب إليه في الحوار ـ أن قيادة الإخوان الحالية "ضحلة مقارنة بالشيخ راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو في تونس فإنهم لامعون في الفكر، ومثقفون حقيقيون".

وأقول: مرة أخرى يعود إلى ما لا يَحسُن مِن الأسلوب، ويكفي مِن العبارة ـ مع الأسف ـ خروجُها عن اللياقة والموضوعية.

ثم يقول: "فالشخص إذا أصبح عالما في جماعة الإخوان المسلمين لا بد أن ينصرف لكي يبقى عالما، وإذا كان مفكرا لا بد أن ينصرف لكي يبقى مفكرا، لأنه داخل الجماعة ينبغي ألا تكون مفكرا ولا عالما، ولذلك يوسف القرضاوي ترك جماعة الإخوان المسلمين منذ 60 سنة، وترك الجماعة وتخاصم معهم، وانصرف عنهم مطرودا، والسيد سابق خرج منهم، والغزالي كذلك، وهم أبرز الشخصيات".

والواقع أنّ هذا الكلام فيه قدْرٌ كبيرٌ مِن المبالغة والمجازفة في الأحكام. الجماعة كأي تنظيم هناك مَن يغادرها، عالِمًا كان أم غير عالم، وهناك مَن يقتنع بالبقاء فيها عالِمًا كان أم غير عالم .. ولا مشكلة. لكن أنْ يَصدُر حكم عامٌّ بأنّه لا مكان لعالم أو مفكِّر داخل الجماعة لأنهما لا يجتمعان؛ فهذا كلام غير دقيق. والواقع يردُّه ..

وإذا كان قد ترَك الإخوانَ أناسٌ مثلُ الذين ذكرَهم الدكتور "الريسوني" فقد تمسك بها ورآها أملا للأمة في محنتها الراهنة خلقٌ كثيرون مِن أهل العلم والفكر، مع ما يعتريها مِن خطأ بعض قياداتِها، وما تحتاج إليه مِن تجديد وإصلاح. وأذكر في هذا السياق علماء ومفكرين مثل الدكتور "سيد نوح"، ومِن قبله الدكتور "مصطفى السباعي"، ومِن قبلهما الشهيد "عبد القادر عودة" ـ يرحمهم الله ـ، والدكتور "عزام التميمي ـ يحفظه الله ـ، وهناك علماء كثيرون يسيرون في قافلة هذه الدعوة المباركة لا يتسع المقام ولا يسمح الأوان لذكرهم، يعمرون محاريب العلم، وينيرون جامعات الدنيا في المشارق والمغارب، وهؤلاء وأولئك قد حلقوا في سماء العلم والفكر، ولم تكبّلْهم الجماعة.

(4)

أما الشيخان "الغزالي" و "سيد سابق" وأمثالهما كالشيخ "البهي الخولي" ـ يرحمهم الله ـ فهؤلاء يا دكتور "ريسوني" ما تركوا الجماعة لأنها طارِدة للعلماء؛ بل لأنهم كانوا معترضين على أن يكون الأستاذ "الهضيبيّ" ـ يرحمه الله ـ "المرشدَ العامّ" خَلَفا للأستاذ "البنا" ـ يرحمه الله ـ، فذهبوا مغاضِبين، ولم يطردْهم أحد.

وأما الدكتور "القرضاوي" فبعد أن خرج من السجن وسافر إلى عالَمه الخليجيّ اختار لنفسه طريقا يرضاه، رأى أنه يحقق ما يريده علميًّا ومعاشيًّا، ولم تختصم معه الجماعة ولا مع غيره ممن ذكرْتَهم. وأقول لك: إنّ الإنصاف يقتضي أنْ نقول: إنّ الإخوان هم الذين تبنوا كتابات "القرضاوي" و "الغزالي" و "سيد سابق" و "البهيّ الخولي" ... وأمثالِهم، وروَّجت لفكرهم ولأشخاصهم في العالم باعتبارهم علماء مبجَّلين ومفكّرين وموجِّهين، فسطع نجمُهم.

أليس هذا هو الوقع والحقيقة يا دكتور؟؟ وإلا فمَن الذي تبنَّى هؤلاء وفكرَهم ؟ هل تبناهم السلفيون مثلا، أو العلمانيون، أو القوميون، أو حزب التحرير، أو المتصوفة، أو جماعة التبليغ، أو الأنظمة الحاكمة ؟؟؟ وليت الإخوان ما فعلوا هذا بذلك المستوى الكبير؛ فإنّهم قد تحملوا أعباء وأوزارَ بعضِ الفتاوى والآراء والمواقف التي صدَرَتْ مِن بعضهم، وهي غير مناسبة فقها وواقعا. وأخيرا: أما تجربتكم في المغرب وتونس فلا تغترَّ بها كثيرا، ولتعلم أنّ موعد الحكم عليها وتقييمِها لم يحِن بعد، ونتمنى لكم النجاح والعافية.

غفر الله لنا ولكم .. وهدانا جميعا إلى سواء الصراط.

تعقيب: بعد أنْ وضعْتُ القلم وانتهيْتُ مِن كتابة هذه الملاحظات وجدْتُ الدكتور "الريسوني" قد أصدر بيانا توضيحيا للحوار الذي ذكرنا ملاحظاتنا عليه .. وبكل أسف لم يتراجع عن شيئ مما استدْركتُه عليه، لا شكلا ولا موضوعا، لا في العبارات ولا في المضامين!! وقد ذكّرني بيانُه بتعليق البابا "بندكت السادس عشر" الذي خلَف "يوحنا بولس الثاني" على اعتراض المسلمين على سبِّه للإسلام، حين قال: إنّ المسلمين لم يفهموا كلامَه !!

ملاحظة: أقول: "ذكّرني بيانُه ..." ولم أُشبِّهْه بالبابا .. معاذ الله .. فليُتأمَّل .

 

 

المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولايعبر بالضرورة عن رأي نافذة مصر