الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
فالشباب هم الكنز الإستراتيجي الحقيقي للأمم، وهم الداعم الرئيسي لنهضتها وتقدمها، وهو الوقود الدافع لبناء أمجادها، فبالعناية بهم وبرعايتهم تتقدم الأمم وتنهض، وبعكس ذلك تتأخر وتتقهقر.
ولقد اهتم الإسلام بالشباب بصورة كبيرة وفريدة، والنصوص والسيرة والأحكام شاهدة على ذلك. ففي أحكام الفقه الإسلامي حكم فريد لا مثيل له في العالم، وهو أن الصَّبيَّ المميز حافظ القرآن الذي عنده علم فقه الصلاة يجوز له إمامة المصلين البالغين، مع إسقاط شرط السن والتكليف والبلوغ عنه؛ لأهمية إعداد القادة والروَّاد والأئمة، ورفعًا لشأن القرآن الكريم والحكم الشرعي.
وفي تولية النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه وكان عمره سبعة عشر عامًا قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر وكبار الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، إقرار بمكانة الشباب وقَدْرهم لتولِّي المهام الجسام حينما تتوافر فيهم الشروط الواجبة لذلك، دون اعتبار للسنِّ أو غيره من المعوقات التي تُصطنع لعرقلة الشباب عن تبوُّؤ مكانتهم المستحقة.
وفي الإطار نفسه نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم - الرؤوف الرحيم بالمؤمنين كل المؤمنين - يشفق على الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما أخذه حماس الشباب في قراءة القرآن كاملاً كل ليلة، فلما علم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال له مشفقًا عليه: "إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تملّ، فاقرأه في شهر، فقلت دعني أستمتع من قُوَّتي وشبابي، قال فاقرأه في عشرة، قلت دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال فاقرأه في سبع، قلت دعني أستمتع من قوتي وشبابي، فأبى".
كما كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم شديد الصبر عليهم وعلى أطروحاتهم ومناقشاتهم حتى وإن كانت غريبة وغير مألوفة؛ فحينما جاء له شاب يستأذنه في الزِّنا، تعجَّب الصحابة وظهر الغضب على وجوههم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم المُدْرِك لطبيعة المرحلة السنِّيَّة للشباب ولفراسته في أن السائل يُرِيد الحق والصواب، عالج الأمر بحكمةٍ بالغة لتتعلَّم الأمة منه، فقال له: "أترضاه لأمك؟، قال: لا، قال: أترضاه لأختك؟، قال: لا، قال: أترضاه لخالتك؟، قال: لا، قال: أترضاه لعمتك؟، قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فهكذا الناس لا يرضونه لمحارمهم، فابتعد الشاب عن الأمر، بل وصار من أبغض الأشياء إليه".
إن السيرة النبوية المطهَّرة مليئة بالمواقف التي تُعبِّر عن منهج المعصوم صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الشباب واهتمامه بهم وبرعايتهم والتي تحتاج منا لإعادة دراسة وبحث؛ لاستخراج ذلك المنهج الفريد لنتأسى به في التعامل الأمثل مع الشباب، وهكذا دائمًا في مسيرة السابقين من الصالحين وكذلك الأنبياء والمرسلين (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى)، (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ).
واجبات وأدوار
وفي عصرنا الحديث نجد أن الأمم التي نهضت وتقدمت قد اهتمت بالشباب وبرعايتهم كركيزة أساسية في بناء الأوطان، فإذا كان الشباب نصف الحاضر فهم كل المستقبل. وهذا يجعل من الواجب علينا أن نُولِي الشباب في أمتنا مكانتهم المستحقة والواجبة من الرعاية والعناية، وتوفير الأجواء الملائمة لذلك، إذا كنا جادِّين في نهضة أمتنا وتقدُّمِها ورُقِيِّها.
فلا بد من الاعتناء بالتربية والتعليم، والرعاية الصحية والنفسية والرياضية والثقافية لهم، وتوفير الأنشطة المختلفة لهم لاستخراج الطاقات الكامنة فيهم، واكتشاف المواهب والقدرات المخبَّأة. وكذلك ضرورة حلِّ مشاكلهم بصورة جذرية؛ حتى يُنَشَّئُوا تنشئة سويَّة خالية من العِلَل والأمراض، ولحثهم على إفراغ وسعهم في البحث والإبداع والاكتشاف، مما يعود بالنفع عليهم وعلى أوطانهم.
ومن الواجب علينا جميعًا كهيئات ومؤسسات، بل وأفراد توظيف طاقات الشباب وحسن توجيهها؛ لأن فترة الشباب هي لباس جديد يبلى؛ لذلك كان له سؤال خاص بين يدي الله عز وجل رغم أنه فترة من العمر له سؤال عام "عُمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه"، فبدلاً من تركهم للفراغ القاتل وأصدقاء السوء، فلنوفِّر لهم الأوعية الحاضنة لهم والكاشفة لقدراتهم والمستوعبة لطاقاتهم. ولتكن هناك برامج علمية وعملية لتوظيف هؤلاء الشباب حسب اهتماماتهم وطاقاتهم وقدراتهم؛ للاستفادة منهم ولتوريثهم الخبرات التخصصية النافعة ممن سبقوهم؛ لتكون هناك حالة صحية من التواصل بين الأجيال وليس التصارع بين الأجيال.
إن على جميع القوى والتيارات السياسية والشعبية والدينية والأجهزة الحكومية غرس منظومة القيم الفاضلة في الشباب قولاً وعملاً، وترسيخ مفهوم التعايش فيما بينهم على اختلاف أفكارهم ومعتقداتهم، فحبُّ الوطن والعمل لنهضته وتقدمه ورفعته والتضحية من أجله مُقدَّم على المصالح الشخصية والحزبية والاختلافات الفكرية.
ولا بد كذلك من إشراك الشباب في تحمل المسئولية وتعظيم دورهم والاهتمام بآرائهم إما بالتنفيذ أو ببيان سبب عدم التنفيذ، فتوظيف طاقات الشباب وتحملهم للأمانة سيُفجِّر الطاقات الكامنة فيهم وسيُحوِّلها من طاقات تُبدَّد فيما لا ينفع، بل فيما يضُرُّ في بعض الأوقات، لطاقات بنَّاءة ودافعة ومُطوَّرة للعمل.
كما أن في حثِّ الشباب على كثرة الاطلاع والمعرفة والثقافة في شتَّى المجالات ضمان لتوازن التكوُّن النفسي والشخصي لهم وعدم الشَّطَط الفكري، فالتنوع مطلوب لضمان صياغة سليمة لشخصية شبابنا، بما يضمن حفاظه على أسسه وثوابته وتحلِّيه بالتنوع الداعم والدافع له في مسيرته المستقبلية.
إن علينا إدراك طبيعة المراحل السنية وخصائصها وحسن التعامل معها بحكمة وحنكة؛ لأن لها فورة عاطفية ولها فتوَّة بدنية وانطلاقة فكرية، وهذا يعتبر بإذن الله تعالى خطوة هامة في تعاملنا مع الشباب، فالأمة الناهضة الواعدة يجب أن تستثمر في أبنائها، وأن تعتبرهم ذخرًا لها في حاضرها ومستقبلها.
مخاطر حقيقية
إن عدم تربية الشباب وتنشئتهم على القيم والثوابت المستمدَّة من شريعتنا الغرَّاء والأعراف الأصيلة لمجتمعاتنا، يتسبب عنه كثير من المشاكل والتجاوزات التي تضرُّ ليس بالشباب وحدهم بل بمصالح الأوطان، فالشباب هم المؤتَمَنُون على بلادهم ومقدراتها وقضاياها في المستقبل القريب، وبقدر اهتمامنا بتنشئتهم على أهمية ومكانة وخطورة تلك القضايا سيكون عملهم في المستقبل.
كما أن في محاولة البعض استخدام الشباب كوقود لتأجيج الخلافات الفكرية والسياسية واستخدامهم كأداة لتنفيذ مآرب وأهداف مشبوهة، خطرًا على البلاد؛ لأن في ذلك تربية لهم على الكره والبغضاء، وإزكاء لروح التنازع والفرقة، وإهدارًا لقيم ثابتة وراسخة في مجتمعاتنا؛ لعل أبرزها عدم إنزال الناس منازلهم، وعدم احترام الكبير وتوقيره، وعدم تغليب المصالح العامة والعليا للأوطان على المصالح الشخصية، واتباع نظرية الغاية تُبرِّر الوسيلة لتحقيق مكاسب زائلة وزائفة، وغيرها من أمراض تعاني منها مجتمعاتنا ، نحتاج لجهد صادق في التصدي لها وعلاجها.
إن عدم استيعاب الشباب في الحياة السياسية والاجتماعية يمثل قُنبلةً موقوتةً تهدِّد المجتمع بأسره، وتحتاج لتضافر الجهود المخلصة لاستيعابهم بجديَّة في كافة المجالات السياسية والفكرية والاجتماعية والرياضية والثقافية، وتوظيف وتوجيه طاقاتهم لما فيه خير بلادهم وأوطانهم.
البنَّا نموذج
لقد كان الإمام الشَّهِيد حَسَن البَنَّا – يرحمه الله – سباقًا ومُوفَّقا في اهتمامه بالشباب، حيث اختصهم برسالة تحدث فيها عن رسالتهم وطبيعة دورهم، وعوامل نجاح فكرتهم، فكان مما قاله فيها: "إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفَّر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، وَوُجِدَ الاستعدادُ الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل من خصائص الشباب".
"ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أُمَّةٍ عِمَادُ نهضتها، وفي كل نهضةٍ سِرُّ قُوَّتها، وفي كل فكرة حَامِلُ رَايتها: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: 13)".
كما أنه اهتم بهم عمليًّا وتربويًّا وأحسن توظيف طاقاتهم لخدمة بلدهم ووطنهم ولنشر الدعوة وتحقيق الأهداف، فرأينا منهم العَالِم الأريب والفقيه المُجَدِّد والمجاهد الحق والمعلم النابه والداعية الواعي والمختصين البارعين في مختلف المجالات والتخصصات والعلوم والفنون. لقد كان يرحمه الله حسنًا في اكتشاف مواهب الشباب، وحسنًا في توظيفها، وحسنًا في تقديمها للغير.
إن جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها وحتى اليوم تُولِي الشباب عناية فائقة، فعندنا عدة أقسام تُعنى بالشباب بمختلف مراحلهم السنية وبتربيتهم وتنشئتهم على منهج الإسلام الوسطي، وعلى حب أوطانهم ومواطنيهم، كما أن هناك عددًا كبيرًا من الشباب في مواقع القيادة واتخاذ القرار يفوق نظراءهم في مختلف الجماعات والأحزاب والهيئات والمؤسسات، ونعمل جاهدين على زيادته لإشراك أكبر عدد في عملية صنع القرار وإدارة شئون الجماعة.
إن الشباب هم أساس النهضة والتقدم, وعصب الأمة وروحها, وقلب الوطن النابض وساعده القويّ, وعقله الواعد، فإذا أردت أن تعرف تقدم الوطن أو تأخره فلتنظر إلى شبابه. فلنتق الله عز وجل في شبابنا، ولنحسن تربيته وإعداده وتوظيفه وتقديمه لخدمة بلده ووطنه.
ولنؤسِّس لتطبيق عملي لنظرية "العقل الجمعي"؛ لنخلط بين الآراء الحكيمة للشيوخ بالآراء الواعدة للشباب، وهو ما عبر عنه الأستاذ البنا رحمه الله في نصيحته الغالية "أَلْجِمُوا نَزَوَات العَوَاطِف بِنَظَرَات العُقُول، وَأَضِيئوا نظراتِ العُقُول بِلَهَبِ العَواطِف"، مما يُحقِّق تطبيقًا عمليًّا لمنظومة المعايير والقيم المتَّفَق عليها لتحقيق توازن وتماسك وتقدم المجتمع.
إن اللحظات الفارقة التي تحياها أمتنا الآن تُوجِبُ علينا جميعًا أن نهتمَّ بشبابنا وبكل شئونهم، وأن نُنْزِلَهم مَكَانتهم المُسْتَحقَّة من الرعاية وأداء الحقوق والواجبات وتحمُّل المسئوليات، وعدم الدفع بهم في أتون معارك سياسية وحزبية غير سِلْميَّة تُشوِّه الحاضر وتضرُّ المستقبل.
وَصَلَّ اللهمَّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والله أكبر ولله الحمد.
القاهرة في: الخميس 23/جمادى الأولى/ 1434هـ، الموافق 4/4/2013م.