15/07/2010

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
 
فإن للعلماء مكانة عالية، ومنزلة سامية، ودرجة رفيعة؛ فهم الذين اصطفى الله من العباد وأورثهم كتابه العزيز المستفاد: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: من الآية 32)، وقد رفع الله درجاتهم: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: من الآية 11) ولا يستوي العالم مع غيره: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: من الآية 9) ومدحهم الله بقوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18).
 
وقد اختارهم الله ليرسموا للناس طريقهم للمعاش والمعاد، وجعلهم قادة المتقين، وأئمة المسلمين، وهم حفاظ الشريعة والدين؛ فهم ورثة الأنبياء، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".
 
أيها العلماء..
 
أنتم عماد الإسلام، ووجودكم زيادةٌ في الإيمان، وسعادةٌ في البلدان، وعمارةٌ للأوطان، وصلاحٌ للرعية والسلطان، وإرغامٌ لأنف الشيطان، وأنتم الفارقون بين الحلال والحرام، والمرشدون إلى دار المقام، وتفصلون بين الناس عند التنازع والخصام.. جمع الله لكم الخير حين فقَّهكم في الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِى، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ".
 
العلماء هم الطريق لوحدة الأمة
 
إذا كان المسلمون قد انقسموا دولاً وممالك شتَّى، وكل دولة تفرَّقت أحزابًا وشيعًا متناحرةً، وبدا بينهم بأسهم شديدًا، فإن واجب العلماء عظيمٌ حين نتَّحد فيما بيننا، ونحرص أبدًا على أن نبني ولا نهدم، وأن نجمِّع ولا نفرِّق، وأن نقرِّب ولا نباعد، مستمسكين بقول الله تعالى:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
 
ولا غرو أن نؤمن بالقاعدة الذهبية التي تنادى بها المصلحون، ودعا إليها المجدِّدون، وعلى رأسهم الإمام حسن البنا: نتعاون فيما نتفق عليه، ونتسامح فيما نختلف فيه، ونتحاور أيضًا فيما نختلف فيه.. شعارنا التسامح والأخوَّة.. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10).. يقول رحمه الله: "والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرُّق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجرَّ ذلك إلى المراء المذموم والتعصب".
 
ونهيب بالعلماء في كلِّ أنحاء الأرض الانضواءَ تحت راية اتحاد العلماء؛ الذي يضمُّ صفوفهم، ولا يمثل طائفةً ولا مذهبًا ولا دولةً ولا جماعة، بل لا يمثِّل إلا الإسلام وحده، الإسلام الداعي إلى الإصلاح والتجديد والتجميع، وألا تختلف قلوبهم، وإن اختلفت آراؤهم، فقد قالوا: اختلاف العلماء رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة.
 
العلماء ودورهم في مقاومة المفسدين
 
‌ إن الإسلام نظامٌ عالميٌّ للحياة، وعقيدةٌ خالدةٌ للبشر؛ لإسعادهم إلى قيام الساعة؛ ومن ثَمَّ جعل فيه سلطانًا ليقوم بتطبيق نظامه، ونشر عقيدته في العالم، ورعاية شؤون الناس على أساسه، وأبقى للأمة بمجموعها حقَّ محاسبة هذا السلطان، والذي أولته أمرها إن قصَّر في رعاية شؤونها، أو حادَ عن أحكام الإسلام في تطبيقه ونشره، ولم يكتفِ الإسلام بجعل هذه المحاسبة حقًّا للأمة تكون مخيَّرةً في القيام به أو تركه؛ بل جعله فرضًا عليها، بل أوجب عليها ذلك.
 
وجعل ذلك على علماء الأمة فرضَ عينٍ؛ لأنهم قادة الأمة الحقيقيون، والثلة الواعية فيها، والقائمة على أمر الدين والمبلغة لأحكامه والداعية إليه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).
 
وبشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يواجهون الطغيان وينكرون على الطغاة؛ بأنهم من سادات الشهداء، فقال صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله".
 
وهذا الدور يقتضي من العلماء- على امتداد ساحتنا الإسلامية وعلى مستوى العالم- أن يؤدُّوا واجبهم علمًا وعملاً وتعليمًا، وأن يقولوا الحق دون خوف أو وجل: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ (الأحزاب: من الآية 39)، يبلغ العالم رسالة الإسلام وهو موقنٌ بقول الإمام الشافعي:
 
أنا إن عشت لست أعدم قوتًا  وإذا متُّ لست أعدم قبرًا    همتي همَّة الملوك ونفسي  نفس حر ترى المذلَّة كفرًا
 
وعلى العلماء أن يجعلوا دينهم فوق دنياهم، وأمتهم فوق حكامهم، وألا يبالوا بما أصابهم في سبيل الله، وقد كان علماء الأزهر زعماء الشعب، وألسنة دفاعه، يردُّون الظلم، وتجبُّر الولاة، فيتقدمون الجموع، ويرسلون كلمة الحق في الإصلاح والعدل، ولا تهدأ نفوسهم حتى يسقط البغْي، وينتصر ما طالبوا به من إنصاف، وإذ ذاك تستريح ضمائرهم المؤمنة، كما فعل الشيخ الإنبابي، شيخ الجامع الأزهر، دخل عليه اللورد كرومر محييًا، فصافحه الأستاذ من جلوس، فاستعظم اللورد ما صنع، وسأله ألست تقوم للخديوي؟ فقال: "نعم؛ لأن الخديوي وليُّ الأمر، وهو منا، ولست مثله لدينا في شيء"، ولم يقل الشيخ ذلك تزلُّفًا للخديوي؛ فهو العالم الجريء الذي جابه الخديوي توفيق، وأفتى بعزله ومروقه دون تحفُّظ أو اكتراث.
 
وليس ببعيد عنكم ما قدمته جماعة الإخوان المسلمين من نصحٍ للحكام، وكلمة الحق أمام الحكام الجائرين، فاستُشهد منهم على أعواد المشانق من استُشهد، وفي طليعتهم: عبد القادر عودة ومحمد فرغلي وسيد قطب، واستُشهد العشرات في السجن الحربي وعذِّب الآلاف سنين طويلة، وما انحنت لهم هامَة، ولا لانت لهم قناة، بل خرجوا بعد عشرات السنين في السجن لمواصلة مسيرة الدعوة إلى الله، وما ضعفوا وما استكانوا لما أصابهم في سبيل الله، وصدق فيهم قول الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).
 
العلماء ودورهم في الجهاد في سبيل الله
 
إن من واجب العلماء الجهاد في سبيل الله، وتحريض الأمة على الجهاد في سبيل الله؛ فهم ورثة النبي، وإن من واجبهم أن يكونوا قدوةً للمؤمنين في الوفاء بعقد البيعة مع الله، المتمثل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
 
أيها العلماء الأفاضل..
 
دوركم عظيم في تقدُّم صفوف المجاهدين للكيان الصهيوني، والمشروع الصهيوأمريكي، وأن تجعلوا من قضية فلسطين والقدس القضية الأساس في حياتكم، فالعلماء مكانهم في صدارة المقاومة والجهاد، وما دور الأزهر في مقاومة الفرنسيين عنا ببعيد، وكذلك كان دورهم عظيمًا في جهاد الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، بل كانوا في قيادة صفوف المجاهدين المتطوِّعين الذين خرجوا لمقاومة الصهاينة في عام 48 عند قيام دولتهم، وكان الإخوان المسلمون في طليعتهم، وفي صدارتهم الشيخ الشهيد محمد فرغلي، والدكتور مصطفى السباعي، والشيخ محمد محمود الصواف، وغيرهم كثير..
 
هل من خلف لعلماء قضوا نحبهم؟!
 
أيها العلماء الأجلاَّء..
 
لقد فارقنا أحبة من العلماء العاملين، والمجاهدين الصادقين، والدعاة المخلصين، كان لهم أثرٌ بارزٌ في تربية الأجيال، ودور ظاهر في الجهاد في سبيل الله، وعملٌ طيبٌ مباركٌ في الدعوة إلى الله، وفي انتزاعهم من بيننا انتزاع للعلم، فعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
 
وكما جاء في الأثر: "موت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسدُّ، وهو نجم طُمِسَ، وموت قبيلة أيسر من موت عالم".
 
إن واجبكم أيها العلماء سد هذه الثغرة بالسهر في التفقُّه في الدين، والمثابرة في تحصيل العلم النافع، والصبر على الجهر بكلمة الحق.
 
رحم الله مَنْ مات مِن علمائنا الأجلاء، ووفق لسدِّ ثغرتهم مَنْ بقي مِن الأحياء، ووفَّقهم للعلم النافع، والعمل الصالح، ووفق الله فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، للعودة بالأزهر الشريف إلى سابق مجده، والارتقاء بعلماء الأزهر ليكونوا القدوة في العلم والعمل وقيادة الأمة لكل خير، والارتفاع بها في سلَّم الارتقاء والرفعة، وما ذلك على الله بعزيز، وليس عنا ببعيد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
 
والله أكبر ولله الحمد.