في ظلال القرآن " أيه ومعني .. الجزء العشرون" - اعداد فريق " نافذة مصر " - سورة النمل
المصدر : كتاب " ظلال القرآن " لـ المفكر الشهيد " سيد قطب " .
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62)
(أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء , ويجعلكم خلفاء الأرض ? أإله مع الله ? قليلا ما تذكرون). .
فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم , وواقع أحوالهم .
فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة , وتشتد الخنقة , وتتخاذل القوى , وتتهاوى الأسناد ; وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص . لا قوته , ولا قوة في الأرض تنجده . وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ; وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى . . في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة , ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء . فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه . هو وحده دون سواه . يجيبه ويكشف عنه السوء , ويرده إلى الأمن والسلامة , وينجييه من الضيقة الآخذة بالخناق .
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء , وفترات الغفلة . يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة . فأما حين تلجئهم الشدة , ويضطرهم الكرب , فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة , ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين .
والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم , ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل . حقائق خلق السماوات والأرض , وإنزال الماء من السماء , وإنبات الحدائق البهيجة , وجعل الأرض قرارا , والجبال رواسي , وإجراء الأنهار , والحاجز بين البحرين . فالتجاء المضطر إلى الله , واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق . هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء .
ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: (ويجعلكم خلفاء الأرض). .
فمن يجعل الناس خلفاء الأرض ? أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا . ثم جعلهم قرنا بعد قرن , وجيلا بعد جيل , يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء ?
أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض , وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها , وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى . النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا ; والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروفالمساعدة للحياة . ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا .
وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة , واستخلف جيلا بعد جيل ; ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين ; ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير , لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات , وتجدد أنماط الحياة , بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور . فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض ! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام !
إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق . فمن الذي حقق وجودها وأنشأها ? من ?
(أإله مع الله ?). .
إنهم لينسون ويغفلون هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس , مشهودة في واقع الحياة:
(قليلا ما تذكرون)!
ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى . ولما غفل عن ربه , ولا أشرك به أحدا .
ثم يمضي السياق إلى بعض الحقائق الأخرى الممثلة في حياة الناس ونشاطهم على هذا الكوكب , ومشاهداتهم التي لا تنكر