د. أسامة جادو :


أفتقدُ بعض الأحبة الكرام الذين لقوا ربهم شهداء بررة فغابوا اليوم عن شهود يوم عرفة وأيام العيد وهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله وقد حُشرت أرواحهم في حواصل طير خُضر تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة بعرش الرحمن عزَّ وجلَّ, قال تعالى: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" [آل عمران: 16]، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال: (إنا قد سألنا عن ذلك، فقال (يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم) " :"أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل) رواه مسلم في صحيحه.

وكما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم، يعني يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود .

وعلى دربهم يسير ملايين الصابرين الصامدين المجاهدين، أقسموا اليمين وأخذوا العهد مع الله تعالى أن يكملوا المسير ويتموا السعي لتأسيس وبناء الدولة المصرية التي نرجوها، مصر الحرية والكرامة والريادة، مصر حصن الإسلام وقلعة العروبة ومنار الإنسانية, مصر العدل والشورى والديمقراطية، ملايين ثاروا على ظلم الانقلابيين وفسادهم ولم يكترثوا بالتضحيات التي تُبذل كل يوم بل كل ساعة، صمدوا فكان صمودهم أسطورة تتحاكى بها أمم الأرض وتنحني لها هامات الشرفاء من أحرار العالم، مرَّت عليهم شهور الصيف وشدة حرارته فلم ينكسروا، حلَّ عليهم شهر الصيام والقيام رمضان العظيم فما انفضــوا، بل زادهم صلابة وقوة، أعلنت سلطة الانقلاب الغاشمة الحرب الشاملة عليهم بالطائرات والمدرعات والأسلحة القتالية، كل أنواع الرصاص أطلقت عليهم فارتقى من بينهم آلاف الشهداء وأضعافهم نالتهم الإصابات والاعتقالات ولم يستسلموا أو يرفعوا راية الاستسلام والخضوع.

من أي معدن صيغت تلك النفوس الأبية؟ وفي أي محضن تربت على هذه القيم والمبادئ التي يقدمون أرواحهم فداءا لها؟

يصدق فيهم جميعًا قول الحق تبارك وتعالى "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا" سورة الأحزاب الآية 23.

يقينــــًا أنهم منتصرون في الدنيـــــا والآخرة، ( فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) سورة آل عمران الآية 148 قوله تعالى: فآتاهم الله أي أعطاهم ثواب الدنيا، يعني النصر والظفر على عدوهم. وحسن ثواب الآخرة يعني الجنة.

وأتحين هذه الفرصة وأذكِّر نفسي وأحبتي ببعض المعاني الإيمانية التي تشحذ الهمة وتعين على أداء الواجبات وتقربنا من هيئة النصر واستكمال مقوماته الأساسية، تقبل الله تعالى منكم صالح الأعمال ورزقنا وإياكم عملاً صالحًا متقبلاً يرضى به عنا ويوجب لنا محبته ويسبغ به علينا فضله .

وأبدأ بالتذكير بيوم عرفـــــــة .

فضــلُ يوم عرفـــــــة
---------------------

يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو من أفضل الأيام مع يوم النحر يوم عيد الأضحى.. خصَّ الله تعالى يوم عرفة بفضائل وخيرات ليست في غيره من الأيام، وسنَّ لنا رسول الله صومه، كما علمنا الدعاء يومه.

لماذا سُمي بيوم عرفة؟ لأنه اليوم الذي يقف فيه وفدُ الله الحجاج على صعيد عرفة، وهو موضع الوقوف، وأهم ركن من أركان الحج كما جاء في مسند الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحجٌ عرفة"؛ أي أن أهم ركن من أركان الحج الوقوف بعرفات.

وسُمِّي هذا المكان بعرفة لما رواه الإمام ابن كثير في تفسيره عن علي بن أبي طالب أنه قال: "بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحجَّ به حتى إذا أتى عرفة قال عرفات، وقد أتى قبل ذلك مرةً فلذلك سُميت عرفة".

ورأى آخر عن عطاء إنما سميت عرفة؛ "لأن جبريل كان يُري إبراهيم المناسك فيقول عرفت عرفت... فسمِّيت بعرفات".

فضل يوم عرفة ومكانته
أما مكانة يوم عرفة فحدِّث ولا حرج، وهي مكانة أكبر من أن يُحيط بها متحدث في ساعة من الزمان، لكن تكفينا باقة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتناول فيها بعض فضائل وخيرات وثواب هذا اليوم الكريم.. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من ا

لنار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟".

والإمام النووي في شرح الحديث يقول وهو يشرح كلمة "وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة": "تدنو رحمته دنوّ كرامة لا دنوَّ مسافة ومماس، وهو يتأوَّل بذلك حديث ال

نزول إلى السماء الدنيا وتنزل الرحمة، والنبي يقول في الحديث "إن الشيطان أغيظ يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة".. فالله حين ينزل إلى السماء الدنيا ينزل نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.. نزولاً يعجز الواصفون عن وصفه ويعجز البشر عن الإحاطة بهذا علمًا يقول الله تعالى: "هؤلاء عبادي جاءوني شعثًا غبرًا، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني.. فكيف لو رأوني؟".

وفي حديث سيدنا جابر: "وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة.. ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول "انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا ضاحين، جاءوا من كل فجّ عميق، يرجون رحمتي ولم يرَوا عذابي، فلم يُرَ يومٌ أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة" (رواه البزار وابن خزيمة وأبو يعلى وابن حبان)، وزاد ابن خزيمة "أشهدكم أني غفرت لهم، فتقول الملائكة إن فيهم فلانًا مرهقًا وفلانًا قال.. يقول الله قد غفرت لهم" (المرهق: أي الذي يغشى المحارم ويرتكب العصيان والمآثم) والخطاب من الله لملائكته .

يوم عرفة أشد وأغيظ وأدحر وأغبر على الملعون إبليس
حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا لأمته عشية عرفة فأجيب "أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم فإني آخذ للمظلوم من الظالم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم" فلم يجب عشية عرفة فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء مرةً ثانية فأجيب إلى ما سأل فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر: بأبي أنت وأمي؛ إن هذه الساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك.. أضحك الله سنك فقال صلى الله عليه وسلم: "إن عدوّ الله إبليس لما علم أن الله تعالى قد استجاب لي وغفر لأمتي أخذ التراب يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور وأضحكني ما رأيت من جذعه".

وفي رواية الإمام مالك عن طلحة بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رُئي الشيطان (بضم الراء) يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة- وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام- إلا ما رأى يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: أما أنه قد رأى جبريل يزع الملائكة "أي يصفّهم للقتال".

فلا تغيب شمس عرفة إلا وتغيب بذنوب السعداء من حجيج بيت الله الحرام".

صيام يوم عرفة لغير الحجيج
ومن سنن يوم عرفة الصيام لغير الحجيج , في حديث الإمام مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة والترمذي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم عرفة قال: "يكفر السنة الماضية والباقية"، وفي رواية الإمام الترمذي قال: "إني احتسبت على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله" فالصحابة يسألون عن الفضل ولا يسألون عن المشروعية، وهنا شبهة قد ترد على الأذهان وهي كيف يكفّر المولى السنة القادمة وذنوبها لم تُرتَكَب بعد؟ وهنا الجواب مطروح:

أولاً: أن الله يعصمه من الذنوب كلها.
ثانيًا: أن الله يعصمه من السنة القادمة فلا يقع في الكبائر ووعد الله في كتابه الكريم "أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" وبذلك يغفر الله عز وجل له كل الذنوب.

ثالثًا: إن وقع منه ذنب وقع مغفورًا له.

رابعًا: أن الله تعالى إذا قرّر لهذا العبد وكتب عليه ذنبًا قرَّر له منه توبةً, ويكون مآله إلى التوبة دائمًا, ويقبض على توبة.

دعـــــــــــــاء يوم عرفــــــة
يوم عرفة يوم مشهود، يتجلى فيه المولى عز وجل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكملت به النعمة، وكمل به الدين، ورضي الله تعالى فيه الإسلام لنا دينا، ونزلت فيه الآية الكريمة درّة آيات سورة المائدة "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" ( المائدة: 3).. بعض اليهود قال لسيدنا عمر إن في قرآنكم آيةً لو نزلت علينا معشر اليهود لجعلناها لنا عيدًا؛ ففطن سيدنا عمر وأخبره بهذه الآية.

هو يوم الدعاء والتوبة والتضرع.. يوم تكون فيه القلوب واجفةً، والعيون دامعةً، والألسنة ذاكرةً، وبالدعاء خاشعةً.. إنه يوم إجابة الدعاء، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا الله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي وأحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .

الدعاء يكون للحجاج وغير الحجاج، وهل الذكر دعاء؟! نقول: نعم .. من شُغِلَ بذكر الله عن مسألة الله أعطاه الله خيرًا مما يُعطَى السائلين. فالحديث المذكور رواه الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب عز وجل: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته ‏أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" وكما قال علماؤنا الأكارم "الدعاء نوعان: دعاء الثناء ودعاء الطلب، فذكر الله تعالى ‏والثناء عليه دعاء، والمشتغل به محقق لقول الله (ادْعُو

نِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ولهذا جاء في ‏الحديث أفضل الدعاء" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل ‏شيء قدير" فسمي هذا الثناء والتوحيد دعاء، وكذلك دعاء الكرب، ودعاء أيوب عليه ‏السلام. وهذا الثناء متضمن لدعاء الطلب.‏

وفي الحديث "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " ‏رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ‏الترمذي وغيره " دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ما دعا ‏بها مكروب إلا فرج الله كربته".

أكثروا من ذكر الله تعالى في هذه الأيام المباركة، وأكثروا من الدعــــاء والتضرع إلى الله أن يفرج الكروب ويذهب الهموم ويغفر الذنوب، وأن يحقق لأمتنا العزة والتمكين في ظل شريعة الإسلام الغراء، وأن يتقبل شهداءنا ويرحم موتانا ويشفى مصابينا ويداوي جرحانا ويربط على قلوب الأمهات الثكالى وزوجات الشهداء وأيتامهم وذويهم أجمعين، وأن ينتقم من المجرمين القتلة الخونة وأن يعجل بنصره وتمكينه لأهل الحق والشرعية.. اللهمَّ آمين.

 

المقالات المنشورة في نافذة مصر تعبر عن رأي كتابها، ولاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع