المستشار/ عماد أبو هاشم رئيس محكمة المنصورة الابتدائية ـ المستشار القانوني للبرلمان المصرى بالخارج :


بغض النظر عن ركاكة الأسلوب الذى صِيغ به ما يُعرَف بمشروع قانون المواطنة من الناحيتين : اللُّغوية و الاصطلاحية ، و دون الخوض في تبيان ما ورد به من ألفاظٍ و عباراتٍ مُبهَمةٍ و مُجمَلةٍ أو فيما ساقه من مغالطاتٍ و متناقضاتٍ ، فإنه يكشف بجلاءٍ عن سعىٍ مُتعمَّدٍ لتمييع الأديان في عموم مصر و تغييب الإرث الدينىِّ للشعب المصرىِّ بمختلف طوائفه  ، و طمس هويته الثقافية التي تشكلت في بوتقة المفاهيم الدينية منذ فجر التاريخ .

لقد استند مشروع القانون المُقترَح إلى المادة (53) من دستور النظام الحالي و التي جرى نصها على أنَّ :

" المواطنون لدى القانون سواءٌ ، و هم متساوون فى الحقوق و الحريات و الواجبات العامة ، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعىِّ أو الانتماء السياسيِّ أو الجغرافيِّ أو لأى سببٍ آخر .

 التمييز و الحض على الكراهية جريمةٌ يُعاقِب عليها القانون .

تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء علي كافة أشكال التمييز، و ينظم القانون إنشاء مفوضيةٍ مستقلةٍ لهذا الغرض . " 

و رغم أن أغلب نصوص هذا المشروع قد جاءت بمثابة ترديدٍ مشوَّهٍ لما أوردته المواد (1) ، (4) ، (9) ، (14) ، (53) ، (64) من دستور النظام الحالي التي تتناول المواطنةَ و مبادئَ المساواة و العدالة و تكافؤ الفرص و تَوَلِّىْ الوظائف العامة  أو بمثابة تنظيمٍ مُعْوَجٍ للمسائل التي أحالت إليها المادة (53) من هذا الدستور ، إلا أن اللافت للنظر أن مشروع القانون المُقترَح ـ في إطار محاولة إيهام الناس أن نصوصه تُكرِّس المبادئ المشار إليها و تعمل على الحفاظ عليها ـ قد انحرف و لاسيما في المواد (3) ، (6) ، (7) ليخالف النظام العام و المراكز القانونية المستقرة و العديد من المبادئ الدستورية المعمول بها .

المادة  (3) و طمس الهوية الدينية :

حيث إن نص المادة (3) من مشروع القانون المُقترَح قد جرى على أنْ : " تُلغَى خانة الديانة فى بطاقة الرقم القومىِّ و كافة الوثائق و المستندات الرسمية ، و لا يجوز إجبار أى مواطنٍ على الإفصاح عن ديانته إلا إذا كان الإفصاح ضروريًّا لترتيب مركزٍ قانونىٍّ كالميراث و الزواج.  "  .

تنطوى هذه المادة على حكمين آمرين :

الأول : يتمثل في إلزام كافة جهات الدولة بعدم إثبات ديانة المواطن المصرىِّ في بطاقة تحقيق الشخصية و فى كافة الوثائق و المستندات الرسمية الأخرى .

و الثانى : يتمثل في عدم إجبار أيِّ مواطنٍ على الإفصاح عن ديانته إلا أن يكون ذلك ضروريًّا لترتيب مركزٍ قانونىٍّ كالميراث و الزواج .

ـ أول ما يتبادر إلى الذهن بقراءة نص هذه المادة أنه ـ في حالة إقرارها بالصورة التي عليها ـ ستصدر بطاقة تحقيق الشخصية لكل مواطنٍ مصرىٍّ و كافة المستندات و الوثائق الرسمية الأخرى المتعلقة به بدءًا من شهادة ميلاده و حتى شهادة و فاته خاليةً من ذكر الديانة التي يعتنقها .

ـ لن يكون بمكنة ذوى الاختصاص في إصدار الوثائق و المستندات المتعلقة بالمسائل التي يترتب على الإفصاح عن الديانة حال مباشرتها مراكزُ قانونيةٌ خاصةٌ كوثائق الزواج و إعلامات الوراثة التأكد من صحة ما يُدْلِى به المواطنون إليهم في هذا الصدد من بياناتٍ إلا من خلال إقراراتهم العارية عن أىِّ دليلٍ يدعمها ، و لاشك أن هذا الأمر سيسمح بالتلاعب و التزوير في مسائل هامةٍ تتعلق بالنظام العام .

ـ جاء نص المادة المشار إليها من الشمول و العموم بحيث يشمل كافة المستندات و الوثائق الرسمية المتعلقة بالفرد من المهد إلى اللحد بما في ذلك تلك التي تتعلق بمسائل يترتب على الإفصاح عن الديانة حال مباشرتها مراكز قانونيةٌ خاصةٌ كوثائق الزواج و إعلامات الوراثة ، فإذا كان لذوى الاختصاص بإصدارها الحق في إجبار المواطن على الإفصاح عن ديانته بمناسبة تحريرها فإنه يُحظَر عليهم ـ وفقًا لهذه المادة ـ إدراج البيانات المتعلقة بالديانة في متنها بما لا يسمح لجهات الاختصاص ـ بما فيها القضاء ـ من الوقوف على ما إذا كان الموظف المختص قد أعمل صحيح القانون في مراعاة الأحكام و القواعد و الآثار المترتبة على الحالة الدينية للفرد من عدمه ، و هو ما يعرض النظام العام للخطر لتعلق تحديد الديانة في مثل هذه الأحوال بأدق و أجلِّ و أهم العلاقات و المعاملات الجارية بين الناس بعضهم البعض .

ـ لم يحدد النص ـ على سبيل الحصر ـ المسائل التي يترتب على الإفصاح عن الديانة في المستندات و الوثائق الرسمية المعدة لإثباتها مراكزُ قانونيةٌ خاصة تبيح إجبار طالب استصدارها على الإفصاح عن ديانته بمناسبة تحريرها ، بل ساق النص مثالين توضيحيين يتمثلان في وثائق الزواج و إعلامات الوراثة  مكتفيًا بعبارة " إلا إذا كان الإفصاح ضروريًّا لترتيب مركزٍ قانونىٍّ " دون أن يحدد معيارًا موضوعيًا للتفرقة بين المسائل التي ترتب الديانة فيها مراكز قانونيةً خاصةً عن غيرها من المسائل الأحرى ، الأمر الذى يجعل لذوى الاختصاص سلطةً تقديريةً مطلقةً  في التفرقة بين النوعين بما يرتب نتائج متباينةً باختلاف الآراء و التوجهات من مختصٍ إلى آخر .

ـ الأحكام الواردة بهذه المادة تشكل إخلالًا جسيمًا بمعاملات الحياة اليومية بين الناس بعضهم البعض في مسائل كثيرةٍ قد لا يترتب في مباشرتها على الديانة مراكز قانونيةٌ من أىِّ نوعٍ ، فوفقًا لما أوردته المادة المذكورة لن يتسنى إجبار أحدٍ على الإفصاح عن ديانته إلا في أضيق الحدود عندما ترتب الديانة مركزًا قانونيًّا معينًا ، فلو أن شخصًا ذهب لاستئجار سكنٍ في منطقةٍ مأهولةٍ بأهل ديانةٍ معينةٍ متظاهرًا أنه يدين بذات الديانة من أجل حمل المؤجِّر على التعاقد معه ، في هذه الحالة لا يستطيع المؤجِّر التيقن من ديانة المستأجِر في ظل انعدام وجود الوثائق التي تثبت ديانة الأخير و حظر إجباره على الإفصاح عنها ، فإذا ما تبين للمؤجِّر بعد ذلك أن المستأجِر يعتنق ديانةً أخرى ما كان  ليوافق على تأجيره العين المؤجرة لو كان قد علم بها فبل إبرام العقد  ، أعتقد أن مثل هذه الحالات تثير الكثير من المشكلات التي تُعتبَر من أشد الأمور فتكًا بالوحدة الوطنية .

ـ  الأحكام الواردة بهذه المادة تفرض التضييق على الناس في معاملاتهم الجارية ، فمثلًا : في المثال السابق لن يُقدِم صاحب العقار على تأجيره إلا لمن يعرفه و يقف بنفسه على الديانة التي يعتنقها و فيمن سواه لن يُقدِم على تأجير عقاره لشخصٍ لا يعرفه حتى و إن كان ذلك الشخص يعتنق ذات الديانة ، و لن يُقدِم ولىٌّ على السماح بخطبة المشمولة بولايته إلا إلى رجلٍ  يعرفه معرفةً شخصية ، و فيمن سواه لن يسمح بذلك لاستحالة التأكد من ديانة الخاطب حتى و إن كان كفءً للزواج بالمخطوبة و يعتنق ذات ديانتها  ، وفى هذا تضييقٌ على العباد و تعنتٌ ليس له ما يقتضيه ، كما أنه يرتب الكثير من المشاكل التي يكون من الصعب إيجاد الحلول لها .

ـ قد يتبادر إلى الذهن أن العلة من إيراد هذا النص تتمثل في إزالة التمييز القائم على أساس المعتقد الدينىِّ بين الموطنين بعضهم البعض ، إلا أن هذا الرأي يقوم على أساسٍ خاطئٍ من حيث الواقع و القانون :

أولًا : من الناحية الواقعية : فإن اعتناق الأديان السماوية قائمٌ ـ في أصله ـ على الإعلان لا الكتمان ، فالصلوات و الشعائر المفروضة في كل دينٍ تُقام جهرًا لا سرًا  ، و دور العبادة تُبنَى ظاهرةً ليعلم أتباع الدين مكانها فيولون وجوههم إليها ، و لأتباع كلَّ دين في مصر سَمْتٌ خاصٌ يظهرون به على نحوٍ يميزهم عن غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ، فبعض المسلمين ـ مثلًا ـ يطلقون اللحى و يرتدون الجلابيب و العباءات العربية ، و بعض المسيحيين يُعلِّقون في رقابهم القلائد التي تحمل الصلبان و يَشِمُ أغلبهم أيديهم برسمه ، فيكون من العبث ـ إذًا ـ إخفاء الهوية الدينية للمصريين في بطاقات تحقيق الشخصية و سائر الوثائق و المستندات الرسمية الأخرى طالما أن أتباع كل دينٍ يُعلنون عنها في مظهرهم و أحاديثهم .

ـ إدراج البيانات المتعلقة بالديانة في بطاقات تحقيق الشخصية و سائر الوثائق و المستندات الرسمية الأخرى لا يؤدى ـ بحالٍ من الأحوال ـ إلى التمييز أو التفرقة بين المواطنين من أتباع الأديان المختلفة في مصر ، و العكس صحيحٌ ؛ ذلك أنه حتى في حالة إخفاء هذه البيانات فإن الناس تَعْمَد إلى إظهارها في سلوك حياتهم اليومىِّ دون أن يؤثر ذلك في محيط علاقاتهم ، و لو كان غير ذلك لما استطاع المسيحيون ـ مثلًا ـ أن يُسَمُّوا أبناءهم بالأسماء التي تُظهِر هويتهم الدينية مثل : جرجس و يوحنا و تريزا و مارى ، كما أنه لا فائدة ـ على الإطلاق ـ من إخفاء ما يُبادِر الناس إلى كشفه و الإفصاح عنه دون طلبٍ أو إجبارٍ من أحدٍ بل و التباهى به آناء الليل و أطراف النهار بما يجعل من كتمانه  أمرًا يأنفونه و يستفز مشاعرهم .

ـ لم يطلب أىٌ من اتباع الديانات القائمة في مصر طمس الهوية الدينية في بطاقات تحقيق الشخصية و سائر الوثائق المستندات الرسمية الأخرى ، و لم يَثْبُتْ ـ يومًا ـ أن إدراج الهوية الدينية للمواطن في أىٍّ مما تقدم ذكره قد نجم عنه تمييزٌ أو تفرقةٌ بين المواطنين بعضهم البعض على أساسٍ من معتقدهم الدينىِّ ، و لم يقم دليلٌ واحدٌ أن أحدًا قد تضرر من ذلك ، بل على العكس من ذلك فإن تحديد الهوية الدينية للشخص يؤثر بالإيجاب في دعم و استقرار المعاملات الجارية  بين الناس على نحو ما ذكرناه سلفًا .   

ـ التسليم بالعلة الفاسدة التي يقوم عليها النص في هذه المادة على طمس الهوية الدينية للمواطنين المصريين في الأوراق الرسمية الصادرة عن الدولة بدعوى إزالة و منع  التمييز و التفرقة الحاصلين بينهم على أساسٍ من المعتقد الدينىِّ يؤدى بنا ـ حتمًا ـ إلى حظر إدراج البيانات المتعلقة بجنس المواطن ذكرًا كان أم أنثى ، إذ إنه و فقًا لذات المنطق فإن إدراجها يؤدى إلى التمييز و التفرقة بين المواطنين ذكورًا و إناثًا بما يُخِلُّ بالمبادئ الدستورية المستقرة فى تسوية المرأة بالرجل ، و يترتب على ذلك أنه إذا تزوج رجلٌ بامرأةٍ فإنه لن يستطيع أن يتيقن من حقيقة أنوثتها إلا بعد الدخول بها إذا كان اسمها من الأسماء المشتركة بين الرجال و النساء مثل رضا و عصمت و أمل .

ـ إذا كان لا مناص من هذه المادة فإن الأمور لا تستقيم ـ وفقًا لذات المنطق الفاسد ـ إلا بحظر التسمى بأسماءٍ أو التزىِّ بأزياءٍ أو ارتداء القلائد و التمائم إذا كانت تؤدى إلى تحديد الهوية الدينية لصاحبها ، و إذا كان ولوج دور العبادة جهرًا يُفصِح عن الديانة التي يعتنقها المرء فالأولى أن يُنَص على إلزام الناس إذا دخلوها أن يكون ذلك سرًّا أو أن يكونوا متنكرين و كلها أمورٌ يرفضها العقل و المنطق و تصطدم بالنظام العام السائد في مصر و تنتقص من الحقوق و الحريات التي تكفلها الدساتير .

ثانيًا : من الناحية القانونية :

الاعتقاد الدينىُّ من الحقوق اللصيقة بالشخصية التي لا يجوز النزول عنها أو المساس بها من قريبٍ أو من بعيدٍ ، و قد تناولته المادة (92) من دستور النظام الحالي حيث جرى نصها على أنَّ : " الحقوق و الحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً و لا انتقاصًا.  و لا يجوز لأىِّ قانونٍ ينظم ممارسة الحقوق و الحريات أن يقيدها بما يمس أصلها و جوهرها . " .

فإذا كان الاعتقاد الدينىُّ أحد أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية ، و كان هذا الحق في جوهره قائمًا على الإعلان لا الكتمان ، فإن إجبار المواطنين على إخفاء حقيقته بإلزام كافة جهات الدولة بعدم إثبات الديانة في بطاقة تحقيق الشخصية و فى كافة الوثائق و المستندات الرسمية الأخرى يشكل انتقاصًا من هذا الحق و تعطيلًا له و يمثل قيدًا على ممارسته يمس جوهره و أصله ، بما يخالف أحد أهم المبادئ الدستورية المعمول بها و يَصِمُ النص المقترح بعدم الدستورية .

ومن ناحيةٍ أخرى فقد نصت الفقرة الأولى من المادة (6) من دستور النظام الحالي على أنَّ : "  الجنسية حقٌ لمن يُولَد لأبٍ مصريٍّ أو لأمٍّ مصريةٍ ، و الاعتراف القانونيُّ به و منحه أوراقاً رسميةُ تُثبِت بياناته الشخصية حقٌّ يكفله القانون و ينظمه . "

وهو ما يعنى التزام الدولة القائم على ثبوت الجنسية المصرية للشخص بمنحه الأوراق الرسمية التي تُثبِتُ بياناته الشخصية كاملةً غير منقوصةٍ بما فيها البيانات المتعلقة بالديانة ، ويُستفاد ذلك من ورود عبارة " بياناته الشخصية " بالنص الدستورىِّ المشار إليه بصيغة الإطلاق و العموم دون أن يَرِد ما يُقيِّد هذا الإطلاق أو يُخصِّص ذلك العموم ، و بالتالى فإن ثبوت الجنسية المصرية للشخص يستوجب ـ حتمًا ـ  كفالة حقه في الحصول على المستندات الرسمية التي تُثبت كافة بياناته الشخصية بما فيها هويته الدينية ، و من ثم فإن استثناء النص المقترح البيانات المتعلقة بالديانة من هذا الحق يَصِمُه ـ أيضًا ـ بعدم الدستورية .

و إذا كان نص المادة  (47) من دستور النظام الحالي قد جرى على أنْ : " تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة . " فإن النص المُقترَح إذ ألزم مؤسسات الدولة بطمس الهوية الدينية لمواطنيها يكون بذلك قد خالف النص الدستورىَّ المشار إليه ، ذلك أن الهوية الثقافية المصرية تستمد تدفقها من روافد الثقافة الدينية المتأصلة في وجدان المصريين ، و تجفيف روافد الثقافة الدينية بطمس الهوية الدينية للمواطنين يؤدى إلى جفاف مَعِين الثقافة المصرية و طمس هويتها بما يخالف أحكام الدستور و يَصِمُ النص المُقترَح بعدم الدستورية .

المادتان (6) ، (7) و تقييد الحق فى بناء المساجد :

حيث إن نص المادة (6) من مشروع القانون المُقترَح قد جرى على أنْ : " تلتزم الدولة بتيسير بناء المساجد و الكنائس و السعادة و الأديرة و ما فى حكمها من دور العبادة بناءً على طلبٍ من الجهة الدينية المختصة.  "

كما جرى نص المادة (7) منه على أنْ : "  تكون الجهة الدينية المختصة المشار إليها فى المادة السابقة على النحو التالى :

1- وزارة الأوقاف المصرية فيما يتعلق بالمساجد و ما فى حكمها .

2- بطريركة الأقباط الأرثوذوكس أو البروتستانت أو الملل الأخرى فيما يتعلق بالكنائس و دور العبادة الخاصة بكل طائفةٍ منها .

3- إدارة الحاخام اليهودى فيما يتعلق و العبادة اليهودية . "

أوردت المادتان آنفتا الذكر الحكمين الآتيين :

1ـ تخويل السلطة التنفيذية للدولة الحق المطلق في البت فى طلبات بناء دور العبادة دون تبيان الضوابط التي تحكم هذا الحق ليتسنى تفنيدها و بسط رقابة القضاء عليها .

2ـ قَصْر الحق في تقديم الطلبات ببناء دور العبادة على الجهات الدينية المختصة المتمثلة في وزارة الأوقاف فيما يتعلق ببناء المساجد و ما في حكمها و البطريركة الممثلة لكل طائفةٍ من الطوائف المسيحية فيما يتعلق ببناء دور العبادة الخاصة بها و إدارة الحاخام اليهودى فيما يتعلق بدور العبادة اليهودية .

البيِّن من هاتين المادتين فيما يتعلق ببناء المساجد أنه لا يجوز لشخصٍ من آحاد الناس أو لشخصٍ اعتبارىٍّ عامٍ أو خاصٍّ أن يُقدِم على بناء مسجدٍ دون موافقة وزارة الأوقاف و موافقة الجهات السيادية في الدولة ، و أنه ليس لأحدٍ من هؤلاء الحق في أن يتقدم إلى الدولة مباشرةً بطلب الموافقة على بناء المسجد و إلا قوبل طلبه بالرفض لانعدام صفته بحسبان أن المادتين المُقترَحَتين قد جعلتا من وزارة الأوقاف الجهة الوحيدة صاحبة الاختصاص و الصفة  في تمثيل المصريين المسلمين في التقدم إلى الجهات السيادية في الدولة بطلبات بناء المساجد .

و تظهر المفارقة ـ في هذا المقام ـ بين الجهات التي تُمثِّل أهل الأديان من غير المسلمين و بين الجهة التي عُقِدَ لها الاختصاص في تمثيل المسلمين في صدد التقدم بطلبات بناء دور العبادة ؛ ذلك أن وزارة الأوقاف ليست من عداد الجهات الدينية التي تُعبِّر عن المسلمين في مصر بل هي أحد فروع السلطة التنفيذية تخضع لأوامر و إملاءات القائمين عليها ، على عكس الجهات الدينية الأخرى التي خُوِّلَتْ الحق في تمثيل باقى الطوائف الدينية   فهى جهاتٌ دينيةٌ مستقلةٌ عن السلطة التنفيذية تُعبِّر عمن تمثلهم دون أن تخضع لسلطان أو إملات أية جهةٍ في الدولة .

و لست بحاجةٍ في مجال تناول هاتين المادتين إلى أن أبِيِّن أنهما تُقيِّدان الحق في بناء المساجد ـ على نحو ما ذكرنا سلفًا ـ بما يُخِلُّ بالمراكز القانونية المستقرة للأغلبية المسلمة و يُهِدر حقوقهم المكتسبة عبر مئات السنين في بناء المساجد دون الخضوع إلى القيود التي أشرنا إليها ؛ الأمر الذى يُحدِث إخلالًا جسيمًا بالنظام العام في الدولة بحسبان أنه يتشكل في جوهره من المبادئ و المسلمات و المراكز القانونية و الحقوق المكتسبة المتأصلة في الدين الإسلامىِّ و هو دين الأغلبية .

إنَّ الكثير من مشروعات القوانين المُقترَحة في هذه الفترة تستهدف   نصوصها الانتقاص من الحقوق المستقرة للأغلبية المسلمة في مصر و تُهدِر الحقوق التي اكتسبوها عبر مئات السنين اعتمادًا على فهمٍ خاطئٍ لفكرة المواطنة  ؛  عليهم أن يستوعبوا أن حقوق المواطنة لا تقوم إلا في إطار عدم المساس بالنظام العام  أو بالمراكز القانونية المستقرة أو بالحقوق المكتسبة  أو بغير ذلك مما تَكفَّل النظام القانونىُّ القائم بحمايته و أبطل كلَّ تصرفٍ يخالفه ، و لا يمكن تطبيق حقوق المواطنة ـ في نظاق نظرية الحق ـ بما يُعطل أو ينتقص من حقوق الآخرين أو بما ينطوى على تعسفٍ في استعمالها ، فالحقوق في مجملها تتساند و تتماس مع بعضها البعض بحيث يؤدى التجاوز في استعمال إحداها إلى الإخلال بالحقوق الأخرى ، كما أنه لا يمكن فهم فكرة المواطنة بمعزلٍ عن باقى العناصر الأخرى التي يقوم عليها النظام القانوني في الدولة .

إن اتجاه النظام الحاليِّ إلى الانتقاص من حقوق الأغلبية المسلمة لا يعنى ـ بالضرورة ـ إعطاء القدر المُنتقَص منها إلى الأقليات غير المسلمة ، بل إنه يشكل تغولًا من السلطة التنفيذية على حقوق المصريين المسلمين لصالحها   ، و في ذات الوقت يسعى النظام إلى التغول و الانتقاص من حقوق غير المسلمين أيضًا ، بيد أن المحصلة من ذلك كله تحعل المصريين يقفون على شفا حفرة الشقاق و التناحر و تُعرِّض النظام العام في الدولة للخطر الجسيم

 

 

المقالات المنشورة في نافذة مصر تعبر عن رأي كتابها، ولاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع