رسالة.. من أسير فلسطيني محرر إلى عبد الله الفخراني المعتقل فى سجون النظام المصري.

عبد الله ..
أتابع أثر السجن عليك، وأستذكر نفسي، نستعيد معًا واقعًا تعيشه أنت وأذكره أنا؛ فالسجن ما هو إلا التفاصيل الصغيرة، ووقت نمضيه محاصرين بأحلام الغائبين، أتابعك وأسمع في كلماتك تذمر من كانوا معي، ألمي وخوفي ووحدتي في مرضي، تفتيشي العاري وبصاقي على السّجان، أتحسس مكان الهراوة التي لها ألم يتميز عن كل ألم في وصولها لعظامي، لقد ملأنا الأقسام ضجيجًا يا صديقي وأحلامًا، وأمنية واحدة مشتركة بيننا، أن نرى السماء من دون أيّ سلك شائك.
تُركنا نواجه وحدنا، كأننا قطعة سلاح بدون ذراع، و"كأنّ أشجاننا لن تكون حزينة كفاية، أفراحنا لن تكون سعيدة كفاية، أحلامنا لن تكون كبيرة كفاية، وحيواتنا لن تكون مهمة كفاية، لتؤثر،" كنا وقودًا للمرحلة وفقط.
نحن نواجه وحدنا يا عبد الله، ونستذكر يوميًا كل من خان، وكل من سقط، ونستذكر أصواتنا في المظاهرات مستعيدين مع بعضنا قصص إخواننا بالتحقيق، وأخبار المحاكم، مضيفين بعدًا جديدًا لعالم موازي لا يسمع ضجيجه أحد ولا يكترث له سوى: السّجان، وحارس البوسطة، وأمهاتنا.
لقد قرأت لك وكأنّني أسمع دبيب قدمك وأنت ذاهب إلى شباك الزيارة، كأني أراك تحبس دمعك وأنت ترى شيب أمك، والتفاصيل الصغيرة التي تختبئ وراء "نحن بخير وننتظرك"، أعذرهم فهم لا يعلمون أنك تعيش تفاصيلهم حد الملل، ويقتلك الغياب بحد سيف، لك ان تتخيل يأسي بالزيارة عندما لم أتعرف على فتاة تقف بعيدا وتبكي، وعند سؤال أمي عنها فما كان منها ألا أن تقول أنها أختك الصغرى، فمع السنين تصبح وجوه من أحببنا أكثر ضبابية ويدور الزمن دورته الخبيثه، فالوقت يقتلنا ببطئ بأخذه معه كل الأشياء الجميلة التي نخبئها جيدا في الذاكرة.

نحن الأسرى الفلسطينيين كنا نخجل من إبتسامة من أمضى ستة وثلاثين عاما في السجون ورؤية أثر الغاز عليه بعد مواجهة مع "الإدارة"، نخجل من أسير قدم أخوته شهداء، نخجل من أننا لم نكن رجال كفاية لنقدم أرواحنا، فقدمنا سني عمرنا فقط، حارب يأسك يا عبد الله بالمواجهة كما فعلنا، فهي غذاء روح عندما ينتزع منك كل شئ.

لعلنا اليوم نقف على أرضيات مختلفة، ولكن أيماننا بأفكارنا هو ما دفعنا للسجون والموت؛ فسقط الأشخاص ولم تسقط الفكرة، فدولة الظلم واحدة لا تتجزأ، وهمنا واحد لا يفترق؛ فربيع دمائنا أزهر في قلوبكم ودمائكم تركت فينا جرحًا لا يندمل، أستذكر وأنا أراكم جموع الأسرى الفلسطينيين وهم يتحضرون لموت اختياري باضرابهم عن الطعام، كانت ركيزته الأساسية في التعبئه كتيب صغير إسمه "المسلكية الثورية" يقوم على نقطتين الأولى: ايمانك بعدالة قضيتك. والثانية: هي ايمانك بحتمية نصرك. وعليه يتطوع الآلاف منا للموت دون وجل، موت أو نصر، جدلية بحثنا فيها عن كرامتنا بعيدًا عن تجار السياسة ومقاولين الدماء، وخضنا من أجلها قتالنا اليتيم.

"نحن لسنا سوى بشر لنا طاقتنا للتحمل ولسنا اولي عزم " هذا ما قلته أنت البارحة ودفعني للكتابة، نعم لسنا أولي عزم ولكننا أولي عزيمة نستمدها من بعضنا البعض، من شكوانا على صحن الفول وضجرنا من "العدد" الصباحي وايماننا المطلق أنّ ما يراد من كل هذا سوى أن نندم على قول "لا".

إنه يا صديقي صراع ارادات، فقط نحن والسجان وليس بيننا أحد، لسنا أبطال، ولعلنا نُنسى ونخرج من تاريخ الرواية الرسمية كمجرمين وقاطعي طريق، ولكن سوف نقاتل من أجل بعضنا البعض، لا نستجدي أحد، ولا نطلب تعاطف أحد؛ فهذه معركتنا وحدنا، نحن بمن معنا وسجاننا ولا ثالث لنا، فإما نكون أو يكون، فبعد الدم تنتهي الحلول، وتضج الرؤوس بثلاثة أسئلة فقط هي: كيف ننسى؟ كيف نغفر؟ وكيف نصالح؟ فنستمد منها إجابات تنفي العدم وتُسكن الروح، وفي وسط هذا المجون لا تنسى يا عبد الله وأنت بالإنفرادي أن تبكي كي لا يراك أحد، وأن تغني بعد تعبك بأغنية كنت تسمعها من شخص عزيز عليك وتسمع صداك، فتتطهر روحك من جديد فنحن بشر عاديين بالنهاية.

لقد اقترب يوم المحكمة يا عبد الله، وسأذكر لك ما فعله أسير فلسطيني يوم المحاكمة؛ فبعد أن لبس أجمل ما لديه ودخل مبتسما إلى القاعه وسمع النطق بالمؤبد ضحك وقال للقاضي "الحكم حكم الله ولن تبقى إسرائيل مدى الحياه" فما كان من القاضي الا أن أضاف الى حكمه ثلاثون سنة أخرى، لقد ظن القاضي للحظه أنه قد هزمه ولكن في النهاية وكما قلت لك لا نراهم ولن نراهم فهذه هزيمتنا لهم وهكذا ننتصر في قتالنا اليتيم.

أطلت عليك يا عبد الله ولا يسعني الا أن أقول أننا حملنا ارث "لا" ولعلها لعنة حلت بنا، وألم أخترناه وأختارنا ولم يأتِ لنا طوعًا، وأختم بقول تميمنا في مقام عراق:
"لا يكون الذنب ذنباً إلا إذا تبرَّأَ منه مرتكبُه، فإن أحبه واعتقده صار قولاً له ورسالةً منه، وما نبيُّ قَومٍ ورسولهم إلا مجرماً عندهم، كانوا مؤمنين قبل أن يَتَنَبَّأْ، فلمَّا جاءَه الوحيُ انقلبوا في التاريخ كُفَّاراً، ألا تراه أوجعهم بها، ألا تراهم جرَّمُوه عليها، لكنه أحبَّ جريمته تلك، حُبُّهُ لهم جَرِيمَتُهُ في حقهم وإن أهداههم خَيْرَ الدارين، وجَرِيمَتُهُ في حقهم حُبُّهُ لهم وإن سفك دماءهم، أَحْبِبْ جريمتَكَ يا أخي تَفُزْ بها والحقُّ حقٌّ على الوَجْهَيْنْ ".