عزت النمر :

 

 المحاولة الفاشلة للإنقلاب في تركيا أكدت على حقيقة راسخة نعاينها جميعاً في واقعنا المباشر ومشهدنا المعاصر. تتلخص في الحديث عن نموذج الإنقلابات العسكرية كمسار معتمد لمواجهة أي محاولة تستهدف تحقيق مصالح الأمة أو استقلالها أو الاستفادة بثرواتها والخروج من دائرة التبعية للغرب وتحقيق مصالحه والانقياد لرغباته والرضوخ لنواهيه.

الإنقلابات تقوم على الإسلاميين اذا ما وصلوا للحكم أو كادوا الوصول أو حققوا نموذجاً رائعاً بعد ما استمروا فيه وحافظوا عليه لسنوات طوال.
تكرار ذلك الأمر يؤكد حقيقتان .. أولاهما صعود حقيقي ومؤثر للتيار الاسلامي والاسلاميين الذين تحملوا تكاليف ومعاناة وجرائم كل إنقلابات العسكر، وثانيهما أن العسكر وضع نفسه مخاصماً للفكرة الاسلامية وكارهاً ومحارباً لها.

الحالة العامة وليس في تركيا وحدها أن العسكر والاسلاميين هما طرفا كل أحداث أمتنا الطاغية، والنتيجة أن الديكتاتورية والاستبداد ومحاربة الدين دوماً هما هدف العسكر وجنايته وحصيلة حكمه، وأن الديمقراطية والحريات والطفرة الاقتصادية ومن ثم أسلمة الأوطان هي هدف الاسلاميين وثمرة حكمهم إذا ما اقتنصوا الفرصة وأمهلهم الوقت.

•  سؤال تفرضه هذه النقطة .. أين إذن باقي مكونات المجتمعات من الليبراليين والقوميين واليساريين وغيرهم من هذا الصراع ؟!.

الوجود الغالب لهؤلاء في الواقع يظهر فقط في حضور إعلامي وأصوات عالية وجعجة فارغة من دون قاعدة جماهيرية حقيقية أو كتلة شعبية مؤثرة، معظم هؤلاء في أوطاننا لا يبرحون مربعات الخيانة والعمالة في تأييد متكرر للفاشية العسكرية والاستبداد الميري.

نادراً وفي غير أوطاننا قد يحدث أن يرتدي هؤلاء رداء الوطنية والشرف، وحينئذ تراهم يتجاوزون خلافاتهم الأيدلوجية ويدعموا المسار الديمقراطي بغض النظر عمن يحمله الى الحكم.

في المشهد التركي الحالي ارتفع هؤلاء على خصومتهم التاريخية مع الاسلاميين فربحوا أنفسهم وأفادوا أوطانهم. في الوقت الذي مارس فيه أقرانهم في الحالة المصرية صورة من أسوأ صور الخيانة والعمالة والتدليس والكذب، فقدموا أنفسهم في صورة حقيرة وألقوا بوطنهم في مهاوي الذل والاستبداد والتخلف والردى.

نخبتنا المصرية هي ليست نخبة حقيقية ولم تأخذ مواقعها في القيادة والتوجيه بما تملك من قدرات وإمكانات ولم تتربع على منصات توجيه الوطن بمواهبها الفكرية أو الثقافية أو السياسية.

إنما هم مجموعة من مشوهي الفكر وعجزة الثقافة ومعدومي القيم إختارهم الاستبداد الذي جثا على صدر الوطن طويلاً وصنع منهم خيالات مآته وعرائس تسمح للعسكر بالتلاعب بهم واستخدامهم في مسرحيات رخيصة لاحتلال الوطن وتدجين الوعي الجمعي للجماهير.

مشكلة النخبة المصرية في غالبها وعمومها إلا ما نجا وندر أنهم حثالة القوم وأراذل البشر، وأن نجاح الوطن في حاضره ومستقبله مرهون بقدرة المجتمع على إقصاء هذه الفئة الضالة المزيفة أو إعدامها وربما ما هو أبعد من ذلك، والقدرة على إنتاج وظهور نخبة حقيقية تملك من المواهب ما يؤهلها للإبداع والتوجيه بأكثر مما تملك من تبعية الاستبداد وقابلية التمرغ على فراش كل طاغية.

الإعلام المصري ظهر بصورة بائسة ومخزية في الحدث التركي، حيث وقف كله وقف في جانب الإنقلاب وأظهر الشماته في الديمقراطية، رغم أنه ما فتأ يزايد على الديمقراطية ويدَّعي أن ما حدث في مصر ليس إنقلاباً إنما هو ثورة شعبية حماها العسكر.

لم يقف الحد عند الفرح بالإنقلاب الصريح ولعن الديمقراطية بل وزع أكاذيب فاضحة بدءً من مانشيتات الصحف المصرية التي أعلنت أن الجيش استولى على السلطة في تركيا وهو مالم يحدث، وإنتهاءً بأن الرئيس التركي طلب اللجوء الى المانيا في صورة من الكذب الفاضح والسقوط المهني والاعلامي والأخلاقي على السواء.

السؤال الذي ينبغي أن يُوجه الى أولئك المجاذيب المتاعيس حول عجلهم الذي عبدوه وسفيههم الذي فوضوه وأيدوه. حول السيسي الذي يظهر كل يوم بصورة بائسة تستعصي على الاستفادة من محاولات التلميع والدعم وتفشل معها كل مبادرات التزيين والتجميل.

الى أي دولة سيطلب "سيسيكم" اللجوء اذا ما سقط انقلابه الغبي وقامت عليه الجماهير؟!.

إنه سواد غابر ذلك الذي يلف الواقع المصري ليس لأننا في أبعد مشهد من الديمقراطية أو لأننا فقدنا بوصلة العدالة والحرية وحقوق الإنسان ولا حتى أننا تخلفنا في التعليم أو سقطنا في السياسة أو أننا أصبحنا نعيش عالة ومتسولين.

هل هناك ما هو أسوأ من كل ما سبق ؟! .. للأسف نعم !!.

كل ماسبق كوارث حقيقية توحي بانهيار الوطن وضياع حاضره ومستقبله، لكنها تظل في البقعة الرمادية في مشهدنا البائس، ولا تمثل البقعة السوداء القاتمة ولا تصف أسوأ ما نعيشه ولا أرذل ما نعانيه لأن كل ما سبق يمكن القفز عليه أو الانطلاق من أسره أو التداوي من علله وبلاويه.

أما أن يكون أحمد موسى وعزمي مجاهد ومرتضى منصور والقرموطي وتهاني الجبالي وغيرهم كثير هم نخبة الوطن وأعلام التنوير فيه !.

هذا ليس إلا اجتماع لسرطان يفتك بجسد الأمة وإيدز يدمر عافية المجتمع وفيروس للموت المبكر والتعفن السريع لن تفلح معه كل أجهزة الكفتة ولا افتكاسات اللواء عبد العاطي الذي هو كذلك من مبكيات النخبة وكوميدياها السوداء ومساخرها الملعونة.

•  ليست هذه كل بلايا نخبتنا للأسف، وما هذا إلا جانب يكمله آخر يصف بقية المشهد العبثي البائس الذي نعيشه .. فالملامة والعتب ليست فقط على نخبة المولاة للعسكر التي تضم معظم الليبرليين والقوميين واليساريين ومن على شاكلتهم  .. ماذا عن النخب الوطنية المتجردة عن طلب المصالح ونخبة الثورة ورافضي الإنقلاب ؟!.

للأسف لم ينج أولئك الطيبين الحالمين الأنقياء من خطأ الممارسة وخطيئة مجافاة الواجب والوقوع في جُب الجهد الضائع والبذل المنكور.

أولئك سبقت بهم عواطفهم الى تجاوز الواقع والغفلة عن استحقاقاته ومقتضياته والقفز على واجب الوقت وفروض الأعيان وسقطوا في أوهام محبطة وأحلام عبثية ومقارنات سخيفة.

هؤلاء لا ينقصهم وطنية الهدف ولا جدية الانتماء ولا الرغبة في الاصلاح والتغيير ولا الحماسة الى الحرية وكسر الإنقلاب، لكن قد ينقصهم الوعي بالواقع والانطلاق منه والاستفادة بأحداثه والبناء على متغيراته وهداياه الثمينة.

نعم اصطف هؤلاء في الجانب القيمي والأخلاقي والوطن مع الحدث التركي وفرحوا وتبادلوا التهاني والتبريكات على فشل الإنقلاب هناك. لكنهم حينما عادوا الى واقعهم لم يحملوا قراءة راشدة ولا أخذوا منه الدرس والعبرة رغم ما في الحدث من أفكار ملهمة تعينهم على أنفسهم وتبدل حالهم وتصلح واقعهم.

للأسف رضي القوم من غنيمة الحدث التركي بأسباب الفشل بأكثر ما عادوا بخطة نجاح أو برنامج عمل.

أصحابنا الطيبين كان يمكن أن يتعلموا من القيادة التركية فن إدارة الأزمة أو مهارة استيعاب المفاجأة وحرفنة التحول منها مرحلياً الى الدفاع ثم المواجهة والهجوم.

كان يمكن كذلك أن يستقبلوا دروس أردوغان ورفاقه في توصيف الحدث وتوعية الشعب وكيفية مخاطبة جماهيره العريضة وأطيافه المختلفة الى التحرك الواجب بخطوات محددة واضحة.

كان يمكن أن يتعلموا كذلك ما هو دور الجماهير في التعامل مع الإنقلاب على الأرض وكيفية تحييد وجود الدبابة في الشارع وإفشال سطوة القوة العسكرية وسيطرتها على المؤسسات الرسمية والميادين الحيوية.

لكن هؤلاء الطيبيين المتحمسين رفضوا العودة بكل هذه الغنائم الثمينة وأبوا إلا أن يسقطوا في فخ المقارنات البيزنطية بين قادتهم وقادتنا وشعوبهم وشعوبنا والتمادي ببلاهة في اجترار خطايا وأخطاء من ماضينا القريب بما يجعل الحقيقة الوحيدة والدرس المستفاد هو أننا لا نملك إلا أن نقنع بخيبتنا والأفضل أن نظل نلعن واقعنا الذي أبتلينا فيه .. قادة سذج وشعب جاهل مسكين.

لم تكن مفاجأة في وسط هذا الخور من نخبتنا الطيبة الساذجة أن ترى كثير من الاسلاميين يشارك بحفاوة في هذه الهاوية. أولئك من يُخِرجون أضغانهم وأحقادهم القديمة ويجتروا مرارات خلافاتهم الأزلية مع الإخوان المسلمين ويستفرغوا طاقاتهم في نشر أسباب والخلاف والتلاسن حوله وإشغال الجماهير في هذا الخبل والدجل والهراء.

ليس المهم متى ولا كيف ولا أين تبدأ أو تنتهي هذه المعركة الوهمية ولا ما هي أهدافها ولا الطائل من وراءها؟.

المهم أن تظل حرباً شعواء يشعلونها وينافحون فيها ثم يركنوا الى الظل بحسب أنهم بذلك قد أدوا ما عليهم وبذلوا جهدهم وقالوا كلمتهم، وكأن معركتهم الحقيقية هي مع الاخوان المخطئين أوجب من صراع دامي مستحق مع إنقلاب عاتي واستبداد كفور.

إن الحدث التركي يدمغنا جميعاً بدرس واحد ألا وهو أن نسعى جميعاً في مواجهة الإنقلاب ومحاربة الاستبداد، وأن نتعالى في سبيل ذلك على خلافات الماضى وأغاليطه ومنحنياته. وأن ننطلق جميعاً من واقعنا كلٌ حسب ما يعرف ويجيد حتى نلتقي قريبا في ساحات النصر وميادين الحرية.

ومن لا يجد سبيلاً في هذا المضمار فليخرج الى الشعب المصري يبصره ويوعيه ويربيه ويرشده فهي ساحة واسعة وميدان فسيح، ولن نحقق شيئاً من أهدافنا ولا نصرة ثورتنا مالم نبذل في هذا السبيل الجهد المطلوب.

@EZZATNEMER
[email protected]
https://www.facebook.com/ezzat.elnemr.9

 

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع