عزت النمر :

لا شك أن الاستفتاء الأخير على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي يعد حدثاً فارقاً يحتاج الى التوقف كثيرًا والتدبر بعناية في مفرداته وتداعياته.

الأيام وحدها ستجيب إن كانت ضوضائية هذا الحدث ستهدأ وتخفت أم أنّ ثمة توابع له ستحافظ على وتيرته الصاخبه ودويه العالي!!.


لكلا الاحتمالين ما يؤيده ويناصره، فاحتمالية الهدوء يدفع في اتجاهها أن طرفي الحدث سواء بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي يمتازان بمؤسساتية راشدة تستطيع استيعاب الأحداث الكبيرة وامتصاصها بعقلانية وهدوء, أما احتمال التصاعد لما هو أبعد قائم خاصة إذا ما تفتقت الأيام عن رغبات أخرى في مزيد من الانفصال وربما الانشطار والتفتت.


أياً كانت مآلات الحدث فلا ينبغي أبداً أن نقلل من أهميته وسطوته سواء في الأثر الآني اللحظي أو في آثاره البعيدة ومآلاته المنتظرة والمتوقعة,  ولا نُعفي أنفسنا من مسئولية واجبة تفرض تدبره وما قد يترتب عليه ولا نتجاوز كذلك جرس المفاجأة عالي الرنين.


الواقع المر الذي نعيشه يقتضي أصولاً ما في التعاطي مع الحدث بحيث لا نسرف في كل مفرداته ونواحيه ، خاصةً أن منها ما لا يلزمنا ولا يخصنا في كثير أو قليل, ويستوجب أن نركز في المساحات التي تتقاطع مع واقعنا وتؤثر فيه.


يمكن القول إن واقعنا سواء في الداخل المصري أو في محيط الربيع العربي الداكن ليس واقعاً منكفئاً، بحيث لا يتأثر إلا بالإرادات السياسية وأطراف الأزمة الداخلية, ولن تتوقف نتائجه على الصراع القائم بين الفاشلين في الداخل, وكذلك لن تكون تدخلات القوى الإقليمية والدولية هي من تكتب نهاية قصته وخاتمة أحداثه.


صدى الخروج البريطاني يُذَّكرنا بحقيقة لا يجب تجاهلها أن الباب مازال مفتوحاً على مصراعيه لأحداث خارجية ليست من ترتيب أحد ولم يتوقعها خبير أو محلل , يمكن أن تُؤَثِّر في واقعنا وتلقي بظلالها الكثيفة عليه وتغير مساراته.


بطبيعة الحال لا أقصد أن الحدث الأوروبي هو ما سيغير واقعنا ويبدل حالنا, لكنني أقول إن المتغيرات الخارجية قد تذهب بنا في أثرها أبعد مما ننتظر ونتصور, خاصةً تلك الأحداث المفاجئة وغير المتوقعة.


لا ننسى أن زلزال الربيع العربي لم تصنعه نخبة ولا حَرَّكَته كتلة مؤثرة ولا حتى بدأ في دولة محورية, إنما انطلقت شرارته الأولى على يد شاب مغمور في مدينة سيدي بوزيد البعيدة المجهولة، والسبب "عربة خضار وصفعة امرأة".


كل ذلك تم في واقع من الاستقرار الكئيب خيم على الواقع العربي حينها بحيث لم يترك حلمًا لحالم ولا تأويلاً لمتأول ولا توقعًا لجهاز من أجهزة المخابرات والرصد على تعددها وتنوعها وعميق خبرتها بأحوال المنطقة.


ثمة بشارة خفية ألتقطها في الحدث الأوربي توحي بأن قطار الربيع العربي لن تتوقف محركاته في نكستنا الحالية ولن تكون الدولة العميقة هي من تقطف ثماره وتسقط رايته, وأن القوى الإقليمية والدولية ــ التي دعمت الثورة المضادة وأرجعتنا الى ما قبل نقطة الصفرــ  لن تكون بمنأى عن آثاره وتحولاته وربما لعناته قريباً أو بعد حين.


آية ذلك أن الحدث بدأ بتدبير ما من ديفيد كاميرون وبالتعاون مع رموز الاتحاد الأوروبي بمجموعة من الإجراءات والمحفزات تدفع وتغري باتجاه البقاء, ولم يكن الاستفتاء إلا إجراء نهائي ومضمون ينتج خاتمة سعيدة تحقق إرادتهم وتنفذ أجندتهم وتركل خصومهم.


حيوية الاستفتاء ونسب التصويت فيه ومن ثم نتيجته النهائية فاجأت الجميع خاصة من كان في كواليس الإعداد, وتحولت الى صفعة قاسية لصاحب فكرته ديفيد كاميرون أفقدته توازنه وقضت على مستقبله السياسي بحسب تصريحاته هو وليس برأي معارضيه.


ما أقصده أن الأحداث تُذَّكِرنا أنه ما زالت للشعوب كلمتها الموثرة وأنها إن غابت حيناً بأسباب مختلفة لكنها ستفاجئنا وتقرع آذان الجميع بأنها مازالت حية وفاعلة.


الحدث الذي نتناوله بالتحليل هو "أكشن" شعوبي بامتياز تجاوز أي سياق مصلحي حاول السياسيون فرضه من خلال مواقعهم وتجاوز كذلك استخدامهم لفزاعتهم الأمنية والاقتصادية وأهمل تصريحات رموزهم الطاغية في الإعلام.


تأثير آخر متوقع للخروج البريطاني أنه سيحدث تغيراً في المزاج الأوروبي عبر انتقال قوة التأثير من التاج البريطاني وتبعيته وارتباطه بالتوجه الأمريكي إلى نزعة ما أقرب إلى الاستقلال والخصوصية ربما يكون للألمان فيها دور مؤثر وفعال في المستقبل القريب.


الكل يدرك أن بريطانيا لم تكن عضواً هامشياً وأن خروجها سيحدث تغيرات ما في قاطرة الاتحاد وقُمرة قيادته, بيد أنّ هذه التغيرات اللازمة ستصطدم بإشكالية وتحدٍّ كبير ألا وهو القدرة على المحافظة على تماسك الاتحاد والإبقاء على سفينته طافية.


في ظل سيناريو المفاجآت وظهور الاحتمال الأضعف وتحققه، ما الذي يمنع من احتمال الفشل في هكذا مهمة من حدوث انشقاقات جديدة وربما انشطارات قد تؤدي لتفتت بريطانيا وانهيار محتمل للاتحاد الأوربي كله وجعله أثراً بعد عين.


أيا كان المآل القريب أو البعيد سواء من مجرد تغير المزاج إلى التفكك التام للاتحاد الأوروبي فسيكون لذلك تأثيره الشديد على الخريطة العالمية وعلى بقعتنا البائسة الموجودة في إحدى زواياها.


الأثر الأهم لهذا الحدث قد يكون في التداعيات الاقتصادية العنيفة وأثارها على الجانبين بريطانيا والاتحاد الأوربي على السواء. هذه التداعيات قد تكون سبباً آخر وحقل ألغام شديد الخطورة يعيد تشكيل الخريطة لمنطقة كانت تعد الأهنأ والأكثر استقراراً إلى ما قبل الحدث الأخير .


حينما نذكر الاقتصاد الأوروبي والبريطاني تحديداً فلا يمكن أن نتجاهل معه استثمارات الخليج والثروات العربية وكنوز المحافظ السيادية ومدى تأثرهم وتأثرها بالآثار الاقتصادية للحدث الأوروبي .


ما يدفع في هذا الاتجاه ليس فقط ضراوة آثار التفكك الأوربي ــ إن حدث ــ على الاقتصاد العربي وخزينته الخليجية, وإنما طبيعة غياب الرؤية وتأخر الفهم لدى الأنظمة العربية وعدم استقلال قرارها سواء فيما يتناول مصالحها السياسية أو الاقتصادية.


قد يعتبر البعض أنه من السابق لأوانه الحديث عن كل هذا التأثير على الاقتصاديات العربية  خاصة وأننا ما زلنا فقط في وحمة الخروج البريطاني ولم ندخل بعد في آلام التفكك ولا مخاض الانهيار.


أقول إن فجائية الخروج البريطاني ربما يجعل منه كرة الثلج التي تتدحرج بأسرع مما نتصور وتلقي بتداعياتها على الاقتصادات الريعية الهشة بأعنف مما نظن أو ننتظر.


إذا حدث هذا - لا قدر الله- فلن نمسك ألسنتنا عن الحديث عن تداع عنيف للاقتصاد الخليجي بقدر ما سيكون الحديث صاخباً على انهيارات عنيفة ومفصلية في العروش الخليجية .


أما التأثر المصري للحدث في شقه الاقتصادي فغالباً سيكون في كارثية توقف المساعدات والزكوات التي تمثل غرفة الإنعاش للاقتصاد المصري. ما يفتح الباب لتصدعات خطيرة في بنيوية النظام السياسي في مصر, خاصةً وأنه نظام لا يقوم على قاعدة أصلاً ولا يستقر على حقيقة راسخة بحال.


قد يقول قائل أنه من الشطط تناول ما سبق وإبراز احتمالاته البعيده بداعي أن ذلك من فرط الخيال أو البناء على الرمال.


ردي على طرح كهذا أن سنوات خمس قاسية مرت على واقعنا العربي يفترض أنها تركت لنا درساً بليغاً علينا أن نكون قد استوعبناه وتعلمناه , ألا وهو أن غياب الخيال السياسي وضعف التنبؤ والركون إلى معطيات الواقع القريبة وعبادة أصنامه الماثلة هو ما أورثنا ما نحن فيه من ذلة وصغار.


وأنه يتوجب على الجميع من أفراد وهيئات وكيانات وجماعات نظرة أوسع وخيال أرحب لواقعنا ومستقبلنا والأحداث من حولنا حتى لا ننتظر الأحداث والرزايا تداهمنا في بيوتنا وتسلبنا كل ما في أيدينا ونعود لنبكي كعادتنا على اللبن المسكوب..!!.


@EZZATNEMER
[email protected]
https://www.facebook.com/ezzat.elnemr.9

 

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها فقط ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع