محمد عوض
من علماء الأزهر الشريف


كعادته دائما فشل "السيسي" ولم يوفق في لقاء "الفرافرة" الخميس الماضي، وكان أول قصيدته كفرا كما يقولون، حيث اختار التوقيت غير المناسب ليلقي للناس بالأكاذيب من ناحية وليحقر الدولة المصرية من ناحية أخرى.

فبعد أن فرغ الفلاحون من حصاد القمح، وبعد معاناتهم التي بلغت حد الإذلال في توريد محاصيلهم لبخس الثمن ( من 400 جنيه العام قبل الماضي، إلى 220 جنيه العام الماضي، إلى 170 جنيه هذا العام ) من ناحية، ومن جهة أخرى قلة الشون فى بعض المحافظات، ومنها الوادي الجديد وتحديدا مركز "الفرافرة" حيث لجأ مزارعوها- بحسب اليوم السابع في 30 / 4 الماضي - "إلى وضع كميات كبيرة من محصول القمح فى الشوارع تحت أشعة الشمس معبأة فى أجولة بلاستيكية، ما يعرضها للتلف والسرقة، بعد فشل جهودهم فى توريد تلك الكميات الكبيرة إلى شون بنك التنمية والائتمان الزراعى، التى لا تستوعب سوى كميات لا تتجاوز 10 آلاف طن، فى الوقت الذى تبلغ فيه الإنتاجية فى مركز الفرافرة حوالى 70 ألف طن، وهو ما أثار استياء المزارعين وطالبوا المحافظ بضرورة التدخل لإنقاذ المحصول من التدمي". بعد هذا كله جاء "السيسي" في زينته "ليطلق إشارة البدء لموسم حصاد محصول" ببلد امتلأت شوارعها بأجولته!! متجاهلا وساخرا من أبسط أدبيات هؤلاء المطحونين :" بعد العيد ما يتفتلش كحك".


إن الرجل لا يعنيه في قليل ولا كثير أمر قمح ولا أرز بقدر ما يعنيه اختلاق المناسابات ليطل ببهتانه على الناس أملا في إطالة أمده، وإلا فأين هو من أهم مشكلتين من بلاياه التي يكتوي منها الناس: مشكلة القمح ومشكلة الأرز وهما أهم سلعتين وعماد طعام أبسط الناس؟


لقد كان هذا البلد على مدار التاريخ بلد "الأمن الغذائي" من القمح لا للمصريين وحدهم بل للمنطقة المحيطة بأسرها، وقد سجل القرآن الكريم مجيئ "إخوة يوسف" عليه السلام ضمن أهل الشام حين مسهم الضر وضربتهم المجاعات يستعينون على ذلك بمصر وأقماحها.


وفي معرض حديثه عن هلاك الفراعين وصف القرآن الكريم مصر بأنها أرض الجنات والزروع، وأرض العيون والكنوز، وأرض النعم والمقام الكريم، قال جل شأنه:{ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}57 – 58 الشعراء. وقال عز من قائل:{ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} 25 – 27 الدخان. فكيف خلفها الفراعين المحدثون؟!


لقد سيروا – بسياساتهم الفاسدة المفسدة - سلة القمح الرومانية أكبر مستورد للقمح في العالم باستيرادها نحو تسعة ملايين طن من القمح من إجمالي استهلاكها البالغ نحو 14 مليون طن سنويا، كما أنها تستهلك نحو 32 مليون طن من الحبوب بينما هي تنتج نحو 22 مليون طن فقط، لقد رضخوا للضغوط الدولية كي تظل مصر تابعا قمحاويا.


لقد أفقروا الفلاح حين اعتبروا أن شراء القمح خاصة من روسيا وأوكرانيا وأستراليا أرخص سعرا من شرائه من فلاحيهم، ثم بدلا من دعمه كبلوه بأعباء ارتفاع أسعار مستلزمات الزراعة من بذور وأسمدة ومبيدات وميكنة زراعية....الخ ليصب ذلك كله في مصلحة حفنة من رجال الأعمال الذين تنتفخ كروشهم من عائدات هذا الاستيراد.


وفضلا عن ذلك وانطلاقا من مبدأ فرعون:{.. مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} 29 غافر. والذي يعني:"متسمعوش حد غيري" يتم قصف أقلام وكتم أصوات كل من يعترض على هذه السياسات ولو كانت بحجم كاتبة كـ"سكينة فؤاد" التي قامت بحملة صحفية في "الأهرام" حول القمح أدت في النهاية لمنعها من الكتابة في الجريدة لأنها قالت ما تؤمن به لا ما يريد الفسدة أن يسمعوه.


هيهات لا تخفى علامات الخوف


لإن رأى "ابن سهل الأندلسي" أن المحب مهما احتاط في إخفاء حبه فإنه ليس بمستطيع ذلك على الدوام، وإنما لا بد لهذا الشعور الباطن من علامات تفصح عن ما بدواخل صاحبها، فإن المتأمل لـ"السيسي" في خطاب "الفرافرة" ليلمس مدى الخوف الذي يشعر به الرجل:


ولقد كتمت الحب بين جوانحي حتى تكلم في دموع شؤوني
هيهات لا تخفى علامات الهوى كاد المريب أن يقول خذوني


نعم فكما لا تخفى علامات الهوى لا تخفى علامات الخوف، مهما حاول الخائف تغطيتها بادعاء الشجاعة والجرأة والعنترية الكاذبة، وعندي أن هذا مما يبعث أمل التغيير في نفوس الثائرين، ويرسل لهم برسالة ذات محورين غاية في الأهمية:


الأول: أن جهدهم غير ضائع ولا ذاهب سدى، بل مؤت أكله طالما أنه المستطاع.
والآخر– وهو الأهم - : أن عليهم التفكير العميق في كيفية استثمار هذا الخوف لصالح ثورتهم.


احتقار مصر


في الوقت الذي من المفترض أن تحتفل فيه مصر بمرور150 سنة على إنشاء "أول مجلس نيابي مصري" عام 1866 والذي بدأت إرهاصاته في عهد "محمد على" سنة 1829 والذي اتخذ قرارا تقدميا في حينه للقضاء على الأمية يقضي بأن حق التصويت بعد 10 سنوات سيكون فقط لمن تعلم القراءة والكتابة. يصرح "السيسي" في أبريل الماضي أن "مصر دولة وليدة" وما هي إلا أيام حتى جاء ليكرر نفس المعنى في خطاب "الفرافرة" وبشكل أسوأ حين قال:"إن دولتنا لازم تكون دولة حقيقية، لأننا لا نعيش فى دولة حقيقية بل نعيش في شبه دولة".


إذا هو اعتقاد راسخ في ذهن الرجل لا زلة لسان، يريد الرجل إذا أن يجعل نفسه بداية تاريخ مصر ومنتهاه، وهذا طبيعي جدا حين يستبد "أهل السيف" بتصريف الأمور بمعزل عن "العلماء" أو "أهل القلم" الذين من المفترض أن يكون دورهم "التنظير" وأن يكون دور "أهل السيف" هو "التنفيذ"، فما بالك بمن انحرفوا في القيام بوظيفتهم الأساسية حين وجهوا جهدهم - رغبة في المكاسب والمغانم الحرام - للاستثمار في المكرونة والصلصة، فلا "أهل سيف" صاروا ولا "أهل قلم"؟!

إن تاريخ البشرية على امتداده ليقرر أن العقلية العسكرية إذا تركت لحالها جرت الويلات على الناس بتفكيرها المتحجر، الذي لا يعرف منطقا سوى منطق القوة الذي يصور لأصحابه أنه الحل الأوحد الذي تحل به معضلات الشعوب وأزماتها.


إن "ملكة سبأ" حين ألقي إليها كتاب "سليمان" عليه السلام، قامت -كولي أمر محترم- بجمع "ملأها" مستشيرة لهم في أمره، فما كان منهم من رأي سوى التلميح بخيار القتال لاغير، جاهلين "طبيعة الملوك، وأنهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها، وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة. وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه، فتتدخل "الملكة" بالرأي الخبير بهذه الطبائع، مؤثرة خيار الهدية التي تلين القلب، وتعلن الود، والتي ربما قد تفلح في دفع القتال. وهي تجربة. فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي. وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض."


{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ. قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ.} 32 _ 35 النمل.


وفي "القادسية" قال الفرس لربعي بن عامر رسول سعد:"ما جاء بكم؟ فقال الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال نعم! كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤوساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شئ من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.


وبعد ... فهل بقي لديك شك في ألا خير إلا في إسقاط هؤلاء؟