"أينما وُجدت السلطة، وُجدت معها المقاومة".. هكذا يقول المفكر الفرنسي، ميشيل فوكو، في معرض تفكيكه علاقات القوة في المجتمع.

وفي القرآن الكريم "ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".

ولولا اطمئنان الطغاة لنوائب الدهر، وسكونهم لمغبة نتائج أفعالهم، لما قامت الثورات، فهذه الأخيرة، وإن كانت لا تأتي إلا بغتة، إلا أنها عملية تراكمية، تختزن مشاعر الرفض والشعور بالظلم والقهر، التي لا تلبث أن تنفجر مع أول شرارةٍ تُطلق من هنا أو هناك. هكذا انفجرت ثورات الربيع العربي، ولا تزال، مدفوعةً بمشاعر ظلت صامتة، ولكنها ظلت تتراكم عبر عقود من الصمت على الاستبداد، حتى انقضت عليه، وجعلته كالصريم!

لذا لا تعدم الشعوب التحايل على حكامها المستبدّين، إما بالقول أو الفعل أو كليهما، ولا تقف مخيلتها عن محاولة كسر جمود استسلامها، حتى يحين الموعد، فتخرج كموجٍ هادرٍ يكتسح كل ما يقف في طريقه من دون مساومة أو تنازل.

خُذ مثلا ما يحدث الآن في الجزائر التي امتلأت شوارعها بملايين المتظاهرين السلميين على مدار الأسابيع الأربعة الماضية، الذين فطنوا لألاعيب سلطةٍ تحاول شراء بعض الوقت، من أجل ترتيب صفوفها، وتجديد سلطويتها بوجوه جديدة. ليخرج نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية المعيّن حديثا، رمطان لعمامرة، كالمذعور في مؤتمر صحافي، يستسمح الشعب، ويطلب منه أن يصبر قليلاً على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأن يعطيه فرصةً أخيرةً لترتيب خروجٍ مشرّفٍ له من السلطة، كان بالإمكان أن يحدث تلقائياً لو كان بوتفليقة قد خرج من السلطة قبل العهدة الماضية، أو التي سبقتها، ولكنه خمر السلطة القاتل! وخُذ أيضا ما يفعله الآن ملايين الشباب السوداني مع طاغيةٍ أعطوه بدل الفرصة عشرا، وصمتوا على ظلمه واستبداده عقوداً، ولكنه عاند وكابر، ولا يزال، إلى أن نفد رصيده لدى شعبه، ولم يعد أمامه إلا أن "يحمل عصاه ويرحل"، كما كتب مفكّر سوداني قبل فترة.

وخُذ الحملة الرمزية التي أطلقها المذيع المصري المقيم في إسطنبول، معتز مطر، وتحمل وسْم "اطمن أنت مش لوحدك"، والتي تهدف إلى محاولة كسر حاجز الصمت والخوف لدى قطاع كبير، ليس فقط من المصريين، وإنما أيضا لدى الشعوب العربية الأخرى التي ترزح تحت ربقة الاستبداد وتسعى إلى إزاحته.

وقد اكتسبت الحملة زخماً إعلامياً ومعنوياً، ساهم فيه، ربما بدون قصد، غباء النظام السلطوي الذي يحكم مصر الآن، والذي يشعر بالاهتزاز وعدم الاطمئنان من ظهور مقاومة، أو بالأحرى محاولة خجولة للمقاومة، تأتيه من على بعد آلاف الأميال، وذلك في وقتٍ ظن فيه أن الشعب قد ابتلعه الخوف ومات!

ساهم أيضا في نجاح حملة "اطمن أنت مش لوحدك" عفويتها وبساطتها، وعدم رفعها شعارات سياسية مباشرة (وإن كانت السياسة حاضرة في قلبها)، تهدف مثلاً إلى إسقاط النظام في مصر، أو الخروج للثورة في الميادين. كما أنها لم تنطلق من قاعات المثقفين والمنظّرين، ولم تمارس استعلاء نخبوياً على الجماهير. بل على العكس، تبدو الجماهير العادية، كما هي الحال في الجزائر والسودان، هي البطل الحقيقي لهذه الحملة، والمحرّك المُلهم لها، والمستهدف الحقيقي منها. وهنا خطورتها، ومنبع خوف النظام منها، خصوصا بعد تأميمه المنابر السياسية، والاستيلاء على منابرها الإعلامية، وإغلاق المجال العام بـ "الضبّة والمفتاح". لذلك، لا غرابة أن يختطف النظام أفرادا من أسرة مطر من أجل ترهيبه، والضغط عليه، ومساومته على إيقاف حملته، ما زاد الحملة زخماً وتفاعلاً ولفت انتباه الغافين إليها!

ما يفعله معتز مطر، والذي نجح، بذكائه الإعلامي، في أن يصبح رمزاً لمقاومة السلطة في مصر على غرار معارضين آخرين، اشتهروا بالمعارضة الشرسة لحسني مبارك خلال عشريته الأخيرة، قبل أن ينقلبوا على الثورة، ويتحالفوا مع من هو أسوأ منه، وكذلك ما يفعله آخرون أيضا بمبادراتٍ فردية، كما هي الحال مع البرنامج الساخر الذي يقدمه يوسف حسين (جو شو)، هو نمط جديد من أنماط مقاومة السلطة، يتجاوز البنى التقليدية للسياسة، ويندرج تحت ما يسمّيها عالم الأنثروبولوجيا السياسية الأميركي، جيمس سكوت، "المقاومة في النسق اليومي"، والذي يعني الأشكال غير الرسمية، أو غير التقليدية، لمقاومة كل أشكال القمع والظلم والاستبداد التي يقوم بها أناسٌ عاديون، من خلال سلوكهم اليومي. وهي مقاومةٌ تأخذ أشكالاً مختلفة، وغير متوقعة، وهذا سرّ قوتها وخطورتها، فمنها ما قد يأخذ شكل مبادراتٍ وإبداعاتٍ فردية، على غرار ما يفعله معتز مطر و"جو شو"، ومنها ما يجري عن طريق الفن أو النكتة أو الأدب أو العصيان الفردي. كما أنها مقاومةٌ ليست محدودة بجغرافيا مؤطرة، أو ببلد معين، ولكنها عابرة للحدود، ومخترقة للهّم المحلي بمعناه الضيق. لذا يتفاعل معها "عاديون" من خلال إثبات وجودهم ومقاومتهم الاستبداد.

ربما لن تسقط حملة "اطمن أنت مش لوحدك" النظام، الآن، وربما ليس غداً، أو في المدى القريب. ولكنها قطعاً تحيي أملاً كان قد غاب وانقطع في نفوسٍ اعتقدت أن الظلم قد انتصر، وأنه لا مناص من الاستسلام للطغيان، والتعايش مع مآسيه وابتلاع مرارته، من دون مقاومة، حتى وإن كانت عن بُعد.