د/ حمدي شعيب

عن صفية بنت حيي بن أخطب رضوان الله عليها أنها قالت‏:‏ كنت أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذإني دونه‏.

 قالت‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛ حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين.

قالت‏:‏ فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.

قالت‏:‏ فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى‏.

قالت‏:‏ فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلىَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم‏.

قالت‏:‏ وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب‏:‏ أهو هو‏؟.

قال‏:‏ نعم والله.

قال‏:‏ أتعرفه وتثبته‏؟.

قال‏:‏ نعم.

قال‏:‏ فما في نفسك منه‏؟‏.

قال‏:‏ عداوته والله ما بقيت‏.‏ [الرحيق المختوم: المباركفوي]

موقف شاذ ومعتاد من يهود ذكرته كتب السيرة.

يرسل لنا رسالتين مهمتين.

طبيعة يهود:

الرسالة الأولى نتلقاها من قراءتنا الظاهرية للمغزى الخاص به؛ حيث يبين طبيعة يهود، وموقف زعمائهم يهود المدينة خاصة بني النضير من الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وكيف عاندوه؟!.

وكيف ناصبوه العداء؟!.

وكيف غدروا به؟!.

وكيف خالفوا الحق الذي يعرفونه؟!.

كما هو عهدهم مع موسى عليه السلام: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ". [النمل14]

ولهذا كان المسلم يردد دوماً في كل ركعة من صلاته أن يهديه الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم من يهود الذين عرفوا الحق وجحدوه؟!.

أو الضالين من النصارى الذي جهلوا الحق فعاندوه!؟.

حزب (عداوته والله ما بقيت):

أما الرسالة الثانية؛ وهي الأخطر والتي نستشفها من خلال رؤية تربوية أكثر شمولاً للمغزى العام للموقف؛ حيث يفسر لنا تلك المواقف المتكررة التي نراها في كل زمان ومكان.

أو هي الصور (الأخطبية) الشاذة التي تنافس موقف ابن أخطب!.

وإذا كانت هناك طائفة مجتمعية سلبية تمثل الأغلبية يطلقون عليها (الأغلبية الصامتة) أو (حزب الكنبة)!؟.

فنحن الآن نتعامل مع حزب جديد له أصول تاريخية وجذور عدائية ضد كل من يحافظ على هوية الأمة الإسلامية؛ وهو حزب (عداوته والله ما بقيت)!؟.

ولقد تبلورت أو انفضحت صور هذا الحزب أفراداً وجماعات خلال تداعيات ثورات الربيع العربي خاصة ثورة 25 يناير؛ والتي ميزت الرموز الفكرية والسياسية والإعلامية والفرق المجتمعية والفئات الفكرية والأحزاب السياسية.

والتي منها:

1-عاشقو الزعامة:

وهم نفرٌ من مرشحي رئاسة مصر الذين لم يحالفهم الحظ.

وقد ابتلوا بداء حب فلاشات الكاميرات وحمى التصريحات ولوثة الهتافات وجنون (البوسترات) وأبوا أن يعترفوا بهزيمتهم ونسوا تصريحاتهم النارية والدبلومسية بأنهم سيقبلون نتائج الصناديق، وأنهم يحترمون الآخر؛ ولكنهم تحولوا إلى مُسَعَّري حروب الفضائيات وغزوات الإشاعات ولم يطيقوا رؤية الرئيس المنتخب لمجرد توجهه الإسلامي.

فهم يذكروننا بالصورة الكاريكاتورية (عبدة مشتاق)!؟.

ولو سألته: فما في نفسك؟.

فلو كان صادقاً فسيقول ولو في نفسه: عداوته والله ما بقيت!؟.  

2-إعلاميون حسب الطلب (Home Delivery):

وهم الذين تراهم يتعاملون بأكثر من مكيال مع الآخرين؛ بل وحسب قيمة الفاتورة.

فيرحبون بكل ما هو ليبرالي أو علماني ويطبلون له ويلمعونه ويشجعونه ويستضيفونه.

ثم يتعاملون مع كل من يحمل رائحة إسلامية بوجه آخر شرس وعنيف وعدواني أكثر من ابن أخطب!؟.

3-ساسة ... من حزب قتلة عثمان:

وهم الذين يذكروننا بفئة كشفناها في مقال سابق بعنوان (قتلة عثمان في شارعنا السياسي).

فنجدهم يتحركون بدوافع نفسية أعلنها قاتل عثمان رضي الله عنه (عمرو بن الحمق)؛ عندما ( وثب على صدره وبه رمق؛ فطعنه تسع طعنات؛ قال: فأما ثلاث منها؛ فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ست فلما كان في صدري عليه). [تاريخ الطبري]

هكذا هو الشعار الخالد: (ثلاثة لله تعالى، وست لما في الصدر)؛ فالطعنات قد تكون فكرية أو سياسية أو عقدية أو تعليمية أو تربوية أو منح وبعثات خارجية، أو تمويلات لأشخاص وأحزاب ومؤسسات مجتمعية مدنية!؟.

والعدد يختلف أيضاً؛ فقد يكون أكثر من تسع، والثلاثة التي لله أو لمستقبل مصر قد تتحول إلى لا شيء؛ والست التي لما في الصدر قد تزيد لتكون كلها لما في الصدر!؟.

4-مفكرون ... من حزب أنا لك بالمرصاد:

 وهم الذين يطاردوننا من فضائية إلى أخرى ومن دكان (توك شو) إلى آخر.

وتعرفهم من خلال هذه الاختبارات أو الأسئلة أو المواقف:

(1)اذكر الله أمامهم أو أسلك سلوكاً إسلامياً:

فتراهم يغضبون ويصرخون ويتشنجون؛ مثل تلك التي حزنت عندما رأت رئيسنا المنتخب يصلي بالمسجد، والأخرى التي أغضبها أنها رأته يسبح على أنامله!؟.

حتى صدمت عندما قرأت أن هؤلاء الليبراليون رفضوا ترشيح أحد المستقلين في لجنة الدستور لمجرد وجود علامة صلاة على جبينه!؟.

تماماً: "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ". [الزمر45]

(2)أشركهم في منصب أو لقاء أو مؤتمر أو برنامج، ثم حاول أن تتجاهلهم مرة واحدة:

فتجدهم يفرحون عندما تبرزهم ويغضبون بل ويكفرون بالعشير إذا نزعتهم الصدارة!؟.

حقاًً: "وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ". [النور49]

أي عندما يكون الحق في جانبهم فإنهم يأتون طائعين منقادين لحكمه؛ ولكنهم يتمردون إذا نزع منهم!.

(3)كلماتهم تفضح دبلوماسياتهم:

فمهما تلونوا وادعو الإنصاف وقبول الآخر ولكن سقطات ألسنتهم تفضحهم ولو تظاهروا بغيرها!؟.

هكذا: " َلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ". [محمد30]

أي ولو نشاء لأريناك أشخاصهم, فلعرفتهم بعلامات ظاهرة فيهم, ولتعرفنَّهم فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم. والله تعالى لا تخفى عليه أعمال مَن أطاعه ولا أعمال من عصاه, وسيجازي كلا بما يستحق.

والصور كثيرة تحاصرنا ليل نهار ولا تغيب عن اللبيب.

شيء في صدري!؟:

ونختم بهذه الحادثة الغريبة؛ التي تفضح لنا دواخل ونيات هؤلاء القوم؛ والتي رويت عن علي رضي الله عنه عندما سار مع يهودي؛ ثم فاجأه: بماذا كانت تحدثك؟.

فأنكر اليهودي كشف ما في نيته من سوء وحقد وغل؛ فصمم علي كرم الله وجهه قائلاً: والله لقد حدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ـ ونحن نصدقه ـ أنه ما رافق يهودي مسلماً إلا وحدثته نفسه بسوء!؟.

فقال اليهودي: والله لقد صدق نبيكم؛ فأنا أريد بك سوءً؛ ولكنني لا أستطيع تنفيذه؛ فلم أتمكن إلا أن أبصق على ظلك من خلفك!؟.