د/ حمدي شعيب
ما من مرة ونحن نراقب ما يحدث على ساحتنا الإعلامية خاصة برامج (التوك شو)؛ وخاصة أوقات ما يمر بمصرنا من أحداث وأزمات وتداعيات ما بعد ثورة (25 يناير).
وما تفعله في بلبلة مشاعر العامة من آراء متضاربة، وأخبار متناقضة، وضيوف يجيدون فن الإسقاط؛ فيرون ويوصمون ويقيمون أي حدث أو أي شخصية بناءً على خلفية ترسخت في عقلهم الباطن من تأثيرات تراكمية لتجارب ذاتية كونت خبرتهم أو الصور الذهنية التي لا تتغير عن الأحداث والأشخاص والأشياء!.
كل ذلك يذكرني بموقف مهيب ومؤثر ومتناقض؛ ورد ضمن أقسى الأحداث الدرامية في تحفة (وليم شكسبير) الرائعة مسرحية (يوليوس قيصر).
ففي موقفٍ رهيب؛ بعد مقتل الملك (يوليوس قيصر)؛ على يد مؤدبه (بروتس)؛ حيث ردد القيصر وهو يحتضر كلماته الشهيرة: (حتى أنت يا بروتس؛ إذن فليسقط القيصر).
وأراد (أنطونيو) ـ صديق القيصر والطامع في الحكم من بعده ـ أن يشعل حماس الجماهير الغاضبة ضد (بروتس)؛ فأخذ جثمان القيصر حتى ميدان السوق ليراه العامة، واتفق (أنطونيو) و(بروتس) على مخاطبة جماهير شعب روما الهائجة الغاضبة؛ على أن يبدأ (بروتس)!.
وكان الموقف مهيباً؛ حيث كان لكل كلمة من الخطبتين ثقلها وقيمتها، واعتلى (بروتس) القاتل والمربي الحكيم المنبر, واستأذن الجماهير الغاضبة في كلمة يدفع بها عن نفسه تهمة القتل, وارتجل خطبته؛ التي ما أنهاها حتى صار الشعب اللاهج بلعنه مسبّحاً بحمده, معلنًا إيَّاه ملكاً وقيصراً جديداً!.
فلم يرض (أنطونيو) العسكري المخضرم؛ ما آلت إليه الأمور, وبطبيعة الحال لم يرضه ما ذهبت إليه جماهير روما؛ فاستأذن في خطاب تأبين كانت المشاعر فيه هي سلاحه الأول حتى انتهى بالشعب إلى الغضب على القتلة وأولهم (بروتس)؛ وترك الجماهير حائرة تائهةً بين الخطابين, مشتَّتة بين حكمة ومنطقية (بروتس) وعاطفية (أنطونيو).
سحرة الملك ... يطاردوننا:
وعلى دربهما نتذكر (ساحر الملك) كما في قصة (الغلام والراهب) التي رواها الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فأكد سنة إلهية اجتماعية ثابتة؛ وهي أن لكل ملك ساحر!؟.
ونتذكر تاريخنا المر مع سحرة الملك في كل عصر ومع كل ملك؛ مثل (جوبلز) البوق الإعلامي للزعيم النازي (هتلر)، و(أحمد سعيد) بطل أكذوبة نكسة يونيو (1967)، و(الأستاذ) المنظر للحقبة الناصرية، وسلسلة تكملها دكاكين (التوك شو) لم تنتهي حتى يومنا هذا.
وعلى نيران أكاذيبها وضلالاتها تستوى الطبخات السياسية؛ فتوجه الجماهير من الشيء إلى نقيضه، ومن القناعة إلى الحيرة، ومن الغضب إلى الرضى؛ في نفس اللحظات، وفي موقف واحد!.
العامة هم الضحية ووقود الأزمات:
وبالطبع فإن أكثر الفئات تأثراً بهذه الحملات الإعلامية (الجوبلزية) هم طبقة العامة.
وهي الفئة التي تكون الضلع الثالث لأي تجمع بشري؛ بل وفي كل تجمعات الخلائق الأخرى!.
فأضلاع المثلث الاجتماعي؛ تتكون من:
الضلع الأول: يمثل طبقة أو مجموعة المتنفذين الفاعلين، أو القادة وصنَّاع القرار.
الضلع الثاني: يمثل طبقة التابعين الإيجابيين، والواعين المشاركين في صنع القرار، أو مجموعة المستشارين أو المعاونين للفئة الأولى.
أما الضلع الثالث: فهم العامة أو العوام أو هوام المجتمع؛ أي فئة المشاهدين أو المفعول بهم، أو الذين يعيشون على هامش الفئتين السابقتين.
كما قال على رضي الله عنه: (الناس ثلاث؛ عالمٌ رباني، ومتعلم يبغي النجاة، وهمجٌ رعاع يتبعون كل ناعق)!؟.
القواعد الذهبية لمواجهة الجوبلزية:
فلما وجدت عمق وخطر هذه الهجمة الإعلامية الشرسة والممنهجة، وتحاول تحويل ثورتنا إلى جثة هامدة تنهشها ذئاب المخلوع.
وأول العلامات الحمراء كانت بعودة الذئب العجوز الغامض (نائب المخلوع) وهو يتقدم بأرواق الترشح لافتراس ثورتنا وحوله تشريفة كريهة مستفزة من الحرس الجمهوري وبحراسة قائد الشرطة العسكرية؛ وكأنها رسالة ترهيب وتخويف؛ أن الخطر القادم من تزوير الصندوق!.
لذا أحببت أن أشارك ببعض المهارات المنهجية للتعامل مع هذه الحملات (الجوبلزية)، وأشعر أنني بحاجة إليها قبل الآخرين.
القاعدة الأولى: احذر الأشاعة ووثق أخبارك.
فلا تستمع إلا لمصدرك الموثق.
ولا تنساق وراء أخبار من غير مصدر التلقي الموثق.
وانظر في مصدر الخبر سواء كان شخصاً أم هيئة واحكم عليه قبل أن تسمع منه.
وهذا لا ينفي قاعدة (صدقك وهو كذوب) أو (الحكمة ضالة المؤمن).
ولكن نؤكد هذه القاعدة في أوقات الشدائد.
وتدبر دوماً: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا". [النساء83]
وسنواصل البقية بعونه تعالى.