د/ حمدي شعيب
(ولا يوم الطين؟!).
صرخة صامتة، وعتاب دامع مكلوم أطلقه الأمير الأندلسي الشاعر المعتمد بن عباد؛ أحد ملوك الطوائف الذين حكموا الأندلس بعد سقوط الخلافة الأموية بالأندلس والتي أسسها صقر قريش عبد الرحمن الداخل والتي امتدت لحوالي ثلاثة قرون؛ فانفرط العقد إلى إحدى وعشرين مقاطعة ضعيفة على رأسها حكام أذلاء يحاربون جيرانهم المسلمين ويستقوون عليهم بالنصارى المتربصين حتى وصل بعضهم إلى دفع الجزية؛ ففتحوا شهية النصارى فطمعوا في التهام المدن الأندلسية؛ حتى سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، على يد ابن عبد الله محمد الثاني عشر النصري الملقب بالصغير وهو صغير فعلاً.
الأمير لماذا أصبح معتمداً؟:
فبينما كان الأمير محمد بن عباد ولد الخليفة المعتضد بالله الطاغية ملك أشبيلية يتمشى مع صاحبه ووزيره عند ضفاف النهر أعجب بذكاء وجمال جارية كانت تغسل الثياب ولأنها أكملت له بيتاً شعرياً، وعلم أنها جارية عند الرميك ابن الحجاج تخدم زوجه؛ ففتن بها حتى أنه حررها وتزوجها؛ حتى إذا مات أبوه وتولى من بعده الحكم، سمى نفسه المعتمد بالله بن عباد من اسمها اعتماد، وعاشت معه في رفاهية وعز فاق الوصف والحدود والتخيل.
رفاهية وبذخ ... وبطر للنعمة:
وفي يوم من الأيام رأت الملكة اعتماد نساء من البادية يبعن اللبن، وقد شمرن عن سوقهن، وسواعدهن، وخضن في الطين.
فقالت اعتماد: اشتهي أن أفعل أنا وبناتي؛ كفعل هؤلاء البدويات.
فما كان من الملك المعتمد إلا أن بادر الى تلبية طلبها، وجهز طيناً صناعياً بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وأحضر القرب الممتلئة باللبن وشدها بالحبال، فحملنها وخضن في الطين الصناعي المكلف ببذخ، وتمرغن فيه وهن يتضاحكن وينادين: لبن من يشتري اللبن؟!.
انقلاب الأحوال:
والمعتمد على ما كان به من أخلاقيات وكل مساوئ ملوك الطوائف إلا أنه في نوبة غريبة استيقظ ضميره وأجاد فن فقه الموازنات فاستعان بإخوة له في العقيدة وهم المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين على أعداء أمته من النصارى؛ فكان له النصر والغلبة بمسحة من الكرامة والرجولة؛ حتى ولو كانت لفترة قبل أن يعود لطبيعة ملوك الطوائف فنفاه المرابطون إلى مدينة أغمات بأقصى بلاد المغرب على بغلة يركبها هو وزوجته اعتماد؛ إمعاناً في إذلالهم!؟.
وأسكنه ابن تاشفين في بيت وضيع بدائي في المدينة، وقد عادت اعتماد الرميكية إلى سيرتها الأولى، ولكن أشد بؤساً، تتسول مع أولادها الأمراء، وعدن الأميرات يخضن في الطين، ويغزلن الغزل ويبعنه في الأسواق، وأصبح الناس يتصدقون عليهم بالمال والطعام والملابس.
لماذا قال: ولا يوم الطين؟:
وفي يوم كان حاجبه الذي كان يدفع الناس عن بابه ويخدمه قد هاجر بعد دخول المرابطين الأندلس إلى المغرب، ورأى أبناء وبنات المعتمد؛ فكان يحسن إليهم ويتصدق عليهم!؟.
فعلم المعتمد أن حاجبه السابق يتصدق على بناته؛ فغضب وصمم على رد عطاياه؛ فأبت اعتماد وتشاجرا؛ حتى عيرها بأصلها وكيف رفعها ولكنها نزلت بنفسها وبهم؛ فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط!؟.
فقال: ولا يوم الطين؟!.
فاستحيت واعتذرت.
ولكن ظلت كلمات المعتمد محفورة في التاريخ؛ كأبلغ وأعمق رد على كل من أنكر جميلاً، أو أساء إلى إنسان كانت له عليه أيادٍ بيضاء، أو جحد من أسدى إليه معروفاً، أو جرح عزيز قوم ذل!؟.
الذين نسوا أيام الطين!:
وهذا الموقف النازف ذكرنا ونحن نتأمل أحوالنا الخاصة والعامة؛ بالكثيرين منا وقد نسوا يوم طينهم؛ مثل:
1-بعض الآباء الذين يستشيطون غضباً عند أول سقطة لأبنائهم وينسون كل ما أحرزوه من تفوق ومواقف شرفتهم وقرت أعينهم بها وبهم.
2-بعض الأبناء الذين يظنون أن الرجولة هي الاستقلالية عن الوالدين ولا يقبلون أي تدخل من والديهم ولو على سبيل النصيحة، فينسفون كل ما صنعوه معهم، وينسون فضل ومعني وثواب بر الوالدين.
تماماً كما صور بدقة رائعة أمية بن أبي الصلت، في حق ولده العاق:
فلما بلغتَ السنَ والغـايةَ التي ... إليها مدي ما كنتُ فيك أؤمـلُ
جعلت جزائي غلظةً وفظاظـةً ... كأنـكَ أنت المنعمُ المتفضِـلُ
فليتك إذ لم ترعَ حـقَ أبوَتي ... فعلت كما الجار المجـاور يفعلُ
فأوليتني حقَ الجوارِ فلم تكـن ... عليَّ بمالٍ دون مالــك تبخلُ
3-بعضنا لا يذكر في أحاديثه عن بعض معلميه إلا العصي التي كانوا يؤدبونه بها وينسى فضلهم في تعليمه وتهذيبه، وكيف شاركوا في صياغته ووضعوا أساس ومنطلقات نجاحه في الحياة.
4-ما يحدث في بعض الأحزاب والجماعات؛ عندما يتساقطون زلات أفرادهم وأعضائهم ويبنون قرارات التعامل معهم على آخر موقف، فتكون القشة التي تقصم ظهر البعير الذي طالما تربى وسمع وأطاع وشارك في بناء حزبه أو جماعته؛ فينسون سبقه وينصبون المقصلة لخطأ قد يحتمل التأويل أو زلة قد يزيلها قليلٌ من روح التغافر والتسامح الأبوي مع أبنائه.
5-عندما تأخذ البعض العزة بالإثم عندما تقسو عليه جماعته أو حزبه؛ لمجرد التأديب والتربية، ويأبى التسوية في التعامل، ولا يقبل الحزم والحسم والجدية في المحاسبة؛ فينقلب على رفقاء الأمس ويتحول إلى ما يشبه مطاريد الجبال، فيصبح قاتلاً بالإيجار وهادماً لبيته القديم والأصيل حسب الطلب؛ بل ويسلم قياده إلى المتساقطين والمناوئين وكأنه بتمرده يهدم المعبد عليه وعلى من راجعه!.
6-بعض الجماعات والأحزاب التي طالما اتحدت وتعاونت ونسقت جهودها معاً من أجل الأهداف القومية العليا والمصالح الوطنية الواحدة، ثم لا تلبث عند أول مأزق أو اختلاف في اجتهاد حول القرارات حيال بعض القضايا؛ فإنها تتفرق وتتخاون وتنسى أيامهم الحلوة.
كما حدث مع المجموعات الثورية التي تعايشت أيام ميدان التحرير وتقاربت وتحاببت؛ ثم ما لبثوا أن فرقتهم حمى الهرولة حول الغنائم النيئة، والشك في التوجهات السياسية!؟.
7-بعض الأصدقاء الذين يهيلون التراب على ماضي جميل بسقطة غير مقصودة.
8-بعض الزوجات اللاتي يكفرن بالعشير، والأزواج الماديين الذين عاتبهم سبحانه: "وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً". [النساء21]
وهذه الصور أتذكرها على سبيل المثال لا الحصر، والصور كثيرة وتتكرر كل يوم من حولنا، ويجمعها رد المعتمد: ولا يوم الطين؟!.