د/حمدي شعيب*
مشهد مهيب ومؤثر ومتناقض؛ ورد ضمن أقسى الأحداث الدرامية في تحفة (وليم شكسبير) الرائعة مسرحية (يوليوس قيصر).
أتذكره بأسى؛ كلما مرت بمصرنا أحداث شبيهة بما حدث يوم فاجعة (ماسبيرو)؛ بين تظاهرة المسيحيين وأفراد من الجيش ومقتل حوالي (25) فرداً من الجانبين، وإصابة المئات؛ وذلك يوم الأحد الدامي في التاسع من أكتوبر 2011م.
ففي موقفٍ رهيب؛ بعد مقتل الملك (يوليوس قيصر)؛ على يد مؤدبه (بروتس)؛ حيث ردد القيصر وهو يحتضر كلماته الشهيرة: (حتى أنت يا بروتس؛ إذن فليسقط القيصر).
وأراد (أنطونيو) ـ صديق القيصر والطامع في الحكم من بعده ـ أن يشعل حماس الجماهير الغاضبة ضد (بروتس)؛ فأخذ جثمان القيصر حتى ميدان السوق ليراه العامة، واتفق (أنطونيو) و(بروتس) على مخاطبة جماهير شعب روما الهائجة الغاضبة؛ على أن يبدأ (بروتس)!.
وكان الموقف مهيباً؛ حيث كان لكل كلمة من الخطبتين ثقلها وقيمتها، واعتلى (بروتس) القاتل والمربي الحكيم المنبر, واستأذن الجماهير الغاضبة في كلمة يدفع بها عن نفسه تهمة القتل, وارتجل خطبته؛ التي ما أنهاها حتى صار الشعب اللاهج بلعنه مسبّحاً بحمده, معلنًا إيَّاه ملكاً وقيصراً جديداً!.
فلم يرض (أنطونيو) العسكري المخضرم؛ ما آلت إليه الأمور, وبطبيعة الحال لم يرضه ما ذهبت إليه جماهير روما؛ فاستأذن في خطاب تأبين كانت المشاعر فيه هي سلاحه الأول حتى انتهى بالشعب إلى الغضب على القتلة وأولهم (بروتس)؛ وترك الجماهير حائرة تائهةً بين الخطابين, مشتَّتة بين حكمة ومنطقية (بروتس) وعاطفية (أنطونيو).
هكذا رسم لنا (شكسبير)؛ وفي مشاهد متكررة من المسرحية؛ كيف توجه الجماهير من الشيء إلى نقيضه، ومن القناعة إلى الحيرة، ومن الغضب إلى الرضى؛ في نفس اللحظات، وفي موقف واحد.
وكأنها رسالة خطيرة ندركها الآن؛ حول التأثير الخطير لكل وسائل الآلة الإعلامية الجبارة؛ في توجيه وشحن وبلبلة عامة الشعوب في عالم السياسة؛ وبخاصة في لحظات الأمم الفارقة؛ تلك التي يغلب عليها طابع الحيرة والتشتت والفراغ الفكري.
الكواكبي ... يبدع:
ونتذكر معه؛ عندما شكى عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله في كتابه الرائع (طبائع الاستبداد) بمرارة من طبيعة العامة: (العوام هم قوات المستبد وقوته، بهم عليهم يصول، وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويهينهم فيثنون عليه رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه أنه كريم، إذا قتل ولم يمثل فيعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليه بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة).
فكانت تلك الكلمات هي أبلغ وصف قرأته لطائفة العامة أو العوام من الناس!.
وهي الفئة التي تكون الضلع الثالث لأي تجمع بشري؛ بل وفي كل تجمعات الخلائق الأخرى!.
فأضلاع المثلث؛ تتكون من:
الضلع الأول: يمثل فئة أو طبقة أو مجموعة المتنفذين، أو القادة أو صنَّاع القرار.
الضلع الثاني: يمثل فئة أو طبقة التابعين الإيجابيين، والواعين المشاركين في صنع القرار، أو مجموعة المستشارين أو المعاونين للفئة الأولى.
أما الضلع الثالث: فهم العامة أو العوام أو هوام المجتمع؛ أي فئة المشاهدين أو المفعول بهم، أو الذين يعيشون على هامش الفئتين السابقتين.
وقود الفتن ... بالإيجار:
إنهم دوماً يبدون وكأنهم الأيتام على موائد اللئام!.
وهم يكونون الاحتياطي (الاستراتيجي) الخطر؛ الذين يرجحون كفة أي صراع مجتمعي خاصة إذا كان بين الفئتين الأعلى، وهم وقود أي فتنة؛ لأنهم دوماً يمتلكون القابلية للاستقطاب، والقابلية للشراء، والقابلية للتوجيه الأعمى، والقابلية لتغيير المواقف حسب الطلب، وحسب المشتري، وحسب الموجه!.
وكأنه فريق محترف للإيجار؛ فاليوم معك، وغداً عليك!؟.
ونتذكر هنا هؤلاء الناس البسطاء الذين استغلهم البعض ليكونوا وقوداً قابلاً للاشتعال، وعلى استعداد دائم ومستمر؛ لأن يدمروا ثورتنا!؟.
ولنتذكر الأحداث الدامية في يوميات ثورتنا؛ وذلك عندما قاموا بالهجوم على الثوار يوم (موقعة الجمل) الشهيرة؛ في ميدان التحرير يومي 2 و3 فبراير 2011م.
ودراما اقتحام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة؛ الذي تم يوم الجمعة 9 سبتمبر 2011م؛ خاصة عندما هرب السفير اليهودي مذعوراً مخذولاً، ثم هرب زميله بعده بأيام من الأردن خوفاً من بطش الجماهير الثائرة!؟.
وكذلك يوم الأحد 9 أكتوبر 2011م؛ يوم مأساة الصدام بين الجيش والمسيحيين؛ أمام (ماسبيرو)!؟.
حالة خاصة ... وأخطر!:
والغريب أنهم وإن كانوا يمثلون عموماً الضلع الثالث الخطر في أي مجتمع؛ كما قال على رضي الله عنه: (الناس ثلاث؛ عالمٌ رباني، ومتعلم يبغي النجاة، وهمجٌ رعاع يتبعون كل ناعق)!؟.
ولكن الأخطر هو أن يكون داخل كل تجمع أو مؤسسة أو جماعة أو حزب؛ هذا المكون الخطر!؟.
فهو سيكون سلاحاً داخلياً ضد الخصوم، ووقوداً للفتن الداخلية، واحتياطياً خطراً لتصفية حسابات كل فريق ضد فريق!؟.
وتنطبق على هذا المكون الخاص الداخلي كلمات الكواكبي؛ كما تنطبق على المكون العام للمجتمعات.
فما هي سماتهم التي يعرفون بها؟!:
ولهذا الفريق سواء كان عاماً في المجتمعات؛ أو كان خاصاً وداخلياً في المؤسسات والأحزاب؛ فإنه يمتلك بعض السمات والخصائص التي تميزه؛ والتي بها نعرفهم ونميزهم؛ فمنها:
1- العفوية:
ونقصد بها سرعة التغيير في المواقف؛ فمن سرعة الإثارة والغضب؛ إلى سرعة التهدئة والرضى!؟.
ونتذكر هنا قصة جريج عابد بني إسرائيل الزاهد الصالح المنعزل والمتقوقع في صومعته؛ وكيف تآمر عليه البعض حقداً وحسداً؛ فساقوا إليه البغي لتفتنه، ثم عندما لم تفلح اتهمته في عرضه؛ ثم جاءت براءته بمعجزة شهادة الرضيع.
ولنتأمل موقف عوام الناس الغريب، عندما انساقوا وراء إشاعة فساد جريج؛ فهدموا صومعته؛ ثم كانوا هم أنفسهم الذين أعادوا بناءها بعد المشهد الرهيب لبرائته!؟.
"فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به. وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب!. قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا". [متفق عليه]
ولنا أن نذهل من هذا التحول الرهيب؛ إلى النقيض في موقف الجماهير والعوام البسطاء!.
2- وقود التخلف الوهن الحضاري!؟:
هذا الفئة لها خطورتها؛ لأنها متهمة من قبل غيرها؛ بتفشي (أمراض الإمعية) أو (مرض الغثائية)!.
وهو المرض الذي دخلت به أمتنا أحط المراحل في الوهن والاستنقاع الحضاري.
وهي التي تجرنا دوماً للعيش في (مرحلة القصعة)؛ كما حذرنا الحبيب صلى الله عليك وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها!. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟!. قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يارسول الله وما الوهن؟!. قال: حب الدنيا وكراهية الموت". [سنن أبي داود قال الألباني: صحيح]
وتلك هي المرحلة الأليمة؛ التي لم نزل نعيشها!؟.
ونتمنى أن نبدأ مشوار التغيير بعد ربيع الثورة العربي؛ بأن نهتم بهؤلاء الناس!؟.
3- احتياطي مضمون لأي مستبد:
ولنتأمل بعمق كل كلمة من كلمات الكواكبي رحمه الله.
4- العاطفة ... هي دفة قيادتهم:
وهذه الدفة أو هذه السمة لها كوارثها في التاريخ الإسلامي، ولها جروحها التي لم تندمل بعد!.
ولنتأمل تلك الكلمات النازفة؛ والتي جاءت في تاريخ الطبري حول مجزرة قتل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ والتي خطط لها ابن سبأ ونفذها مجموعة من قطاع الطرق والمفسدين والموتورين؛ الذين تسقطهم وجمعهم في رحلته بديار الإسلام!.
وكان عبد الله بن سبأ يهودياً من أصل صنعاء، أمه سوداء؛ فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم؛ فأفسد النفوس، وشحنها للانقلاب، وقتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة، والناس مشغولون في الحج، حتى تم لهم من التأليب ما أرادوه؛ حتى حاصروا منزل الخليفة أياماً، ومنعوا عنه الغذاء والماء، والاتصالات مع الخارج؛ ثم دخلوا عليه (فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه، وسالت عليه الدماء. وأما عمرو بن الحمق، فوثب على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها، فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ست فلما كان في صدري عليه). [تاريخ الطبري ـ مقتطفات بتصرف]
فمن له القابلية لينقلب على رجل بحجم وقامة الخليفة؛ فلا نستغرب أن ينقلب على من هو أقل منه!.
5- يحبون معذبيهم ... ويعشقون جلاديهم:
وهذه من أخطر سماتهم والتي تحدث عنها القرآن الكريم عندما حكى عما صنعه فرعون بقومه؛ نظراً لوجود القابلية للذل والخنوع وحب الاستعباد عندهم: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ". [الزخرف54] أي أنه اسْتَخَفَّ عقولهم فدعاهم إلى الضلالة, فأطاعوه وكذبوا موسى عليه السلام؛ لأنهم كانوا قومًا خارجين عن طاعة الله وصراطه المستقيم.
كيف نجيد توظيفهم إيجابياً؟:
ولكن يبقى لهم سمتين وخاصيتين طيبتين؛ يمكن لدعاة الخير والإصلاح أن يجيدوا حسن توجيههم؛ لو وظفوهم:
1- القابلية للتشكيل .. وأرض خصبة للتغيير؟!
فعلى مر التاريخ أن الأذكياء والناجحين من الدعاة والمصلحين؛ الذين امتلكوا مفاتيح انتشار أفكارهم؛ قد فهموا أين تكون الأرض الخصبة الصالحة لزرع الثمار!؟.
فاتجهوا بفكرتهم إلى هؤلاء القوم البسطاء، تلك الأرض الخصبة التي تعتبر وقود كل حركة، ومنها ينبع كل خير، وهم عوام وجمهور الناس، و(نريد من قولنا جمهور الناس معظمهم، ويكونون عادة مرؤوسين للملأ وتابعين لهم، كما يكونون غالباً فقراء وضعفاء ويباشرون مختلف الأعمال والحرف، وهم أسرع من غيرهم إلى الإستجابة إلى الحق فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، وفطرتهم سليمة، ومع هذا فإن هناك احتمال لتأثرهم بمكائد الملأ والسير وراء تضليلهم وأكاذيبهم كما حصل لقوم فرعون، فقد تابعوه على باطله وناصروه عليه فقال عنه وعنهم سبحانه: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ". [الزخرف 54] وذلك لأسباب عديدة: أولاً: الخوف، ثانياً: الإغراء بالمال وحطام الدنيا، ثالثاً: الشبهات التي يثيرها الملأ حول الدعوة والداعي). [أصول الدعوة : د. زيدان]
ولا ننس كيف اتجه صلى الله عليك وسلم إلى الفتى (عداس)؛ فقبل وقدر رسالته العظيمة التي رفضها زعماء وكبار ثقيف في رحلته إلى الطائف!.
وكذلك قبل دعوته ضعفاء مكة ونصرونها، ورفضها كبار قريش وحاربوها!.
2- تستهويهم البطولات الفردية:
ومن أبرز سماتهم العجيبة؛ بل وهو مفتاح شخصيتهم أن تاريخهم يشهد لهم بالإيجابية وعدوي التحرك عندما يقتنعون بقضية مظلوم وبين يديك موقفهم الأخير من جريج!.
كذلك فقد تستهويهم البطولات الفردية وثبات صاحب القضية، وهذا ماحدث في قصة الغلام والراهب؛ وذلك عندما طلب الغلام من الملك إن أراد التخلص منه فليقتله أمام الناس وليقل أولاً: بسم رب الغلام وليرمه بالسهم، فلما مات آمن الناس برب الغلام ولم يرجعهم عن دينهم إحراقهم في الأخدود.
والآن وفي مرحلتنا العصيبة لإتمام نجاح ثورتنا؛ من هو المرشح لقدح شرارتهم الإيجابية!.
هذا وإلا تفعلوه؛ فاحذروا هذا الاحتياطي الخطر!؟
_________
*خبير تربوي وعلاقات أسرية
[email protected]