د/ حمدي شعيب
خبران معبران ومقلقان؛ جاءا في نفس اليوم وفي نفس جريدة (المصري اليوم) يوم السبت (24 سبتمبر 2011م)؛ ولكنهما مرتبطان في نفس الرسالة التي نفهمها منهما؛ خاصة عندما تصدرا من رموز فكرية وسياسية مخضرمة؛ فما بالنا بحالة تلاميذهم وأتباعهم وأحزابهم!؟.
الخبر الأول؛ ما جاء في ثنايا حوار مع د. علي السمان رئيس الاتحاد الدولي للحوار بين الأديان والثقافات؛ عندما سئل عن الخلاف بين الثوار الذي يهدد الثورة؛ فقال بالحرف الواحد: (بالطبع والنقطة الوحيدة التى لم أنجح فيها حتى الآن هى وحدة العمل بين الثوار، إذ نفاجأ أحياناً بمن أسميهم «الديماجوجيين» «الغوغائيين»، ومن بينهم «صفوت حجازى» الذى قد يأتى فى اجتماع ويعمم الأحكام، وأرفض هذا المبدأ تماماً، فيسألنى من الذى ستأتي به فى لجنة حوار الثقافات والأجيال. إننا لن نقبل ولن نسمح بوجود أى وزير سابق حتى لو كان من أئمة الاستنارة، لكننى سألته بلهجة حاسمة من أين لك بشرعية التحدث باسم الجميع، ثم انسحبت من تنظيم الدائرة المستديرة واستقلت وتألمت لتركى صديق عمري الدكتور «عبدالعزيز حجازى» وحده فى الميدان).
فاستغربت تصريحاته النارية اللاسعة واللاذعة لمخالفيه؛ فوصفهم بالغوغائيين؛ وكيف نسي الرئيس المخضرم؛ أن يعلمنا أهم مبادئ أدب الحوار والتفاوض؛ وهي عدم التعميم، وعدم التنابز بالألقاب، والمرونة وعدم غلق باب التفاوض جملة !؟.
الخبر الثاني؛ هو خلاصة مقال د. رفعت السعيد رئيس حزب التجمع؛ بعنوان (أردوغان والإخوان)؛ فبدأ مغازلاً أردوغان، و رأيه في العلمانية وعلاقتها بالأديان، ثم وجه اللوم أكثر منه الشماتة في فصائل التيار الإسلامي، من إخوان وسلفيين، والصدمة التي بدت في تصريحات رموزهم؛ وكيف لم تعجبهم تصريحات أردوغان، ثم أورد تصريحاتهم المهاجمة للرجل ؛ قبل أن يتثبتوا من مغزاه !؟.
فقلت سبحان الله؛ أهكذا انقلبت الآراء في أردوغان الشامخ دوماً في أزمنة الانكسار؛ عند كلا الطرفين مائة وثمانين درجة، ومن مجرد فهم منقوص لجملة واحدة من تصريحاته ؛ والتي علق عليها مؤخراً بأن ترجمة كلماته لم تكن دقيقة !؟.
وأيقنت أن شارعنا السياسي؛ حتى بعد الثورة لم يزل يعاني من ظاهرة فكرية وسياسية واجتماعية مخيفة؛ وهي ظاهرة الانتقائية في التعامل مع الآخر!؟.
ظاهرة الانتقائية:
وهي التي تجعل كل منا؛ يمارس إرهاباً فكريًا على نفسه؛ قبل الآخرين؛ والتي من مظاهرها:
1- أننا ننتقي ما يعجبنا فقط من أفكار وسلوكيات الآخر، ونعادي ونرفض ونهاجم ما لا يعجبنا منه.
2- أننا نعاني من الرؤية التعميمية للآراء؛ فمجرد سماعنا لرأي واحد من الآخر؛ سواء يعجبنا أو لا يعجبنا؛ فإننا نعممه على كل ما سبق من تاريخه؛ وما لحق وما سيلحق مستقبلاً.
3- أننا نعاني من الرؤية التعميمية لشخصية الآخر واتجاهه؛ فمجرد ورود قول أو رأي أو سلوك يعجبنا أو لا يعجبنا من أي شخص ؛ فإننا نعممه على حزبه وجماعته وطائفته، ودينه ولونه وجنسه!؟.
4- أننا نكون رؤيتنا عن الآخر وعن أرائه وشخصه وسلوكياته؛ على أساس ما يوافق هوانا وأفكارنا وكل ما يعجبنا ونود أن نراه أو نسمعه منه وعنه!؟.
5- أننا نوالي ونحب فقط كل من تكون آراؤه وأفكاره على هوانا؛ وبالمقابل نحن أعداء كل من يخالفنا؛ حتى ولو كان على ملتنا !؟.
الإسلاميون ... ينتقون!:
وإذا كنا نعتب على بعض المفكرين والساسة من الليبراليين والعلمانيين؛ من وقوعهم في براثن تلك الظاهرة المرعبة الصادمة؛ فإن الخطورة تتعمق عندما نجد أن هذه الظاهرة تتجذر وتبرز عندما يكون أحد الأطراف من الإسلاميين!؟.
فهو يضع لوناً من الشرعية على خطابه، ويغطي رأيه بثوبٍ من القداسة؛ حتى ولو كان فكريًا أو سياسيًاً محضًا!؟.
ويتناسى قواعده الشرعية وأصوله الفقهية؛ التي قد تضع آراءه في دائرة السياسة الشرعية أو في حكم المختلف فيه؛ والتي وضع لها إمامنا الشافعي - رحمه الله - قواعد ضابطة؛ كما جاء في كتاب (جولات بين الفقهين الكبير والأكبر) لعلامة سوريا الشيخ سعيد حوى - رحمه الله - ؛ أنه لا إنكار فيما اختلف فيه، وأنه لا إثم فيما اختلف فيه، وأن الله لا يعذب فيما اختلف فيه!؟.
لدرجة أنهم يمارسون نوعاً من الإرهاب الفكري على مخالفيهم؛ حتى ولو كان من حزبهم أو طائفتهم أو جماعتهم؛ فالموافق لآرائهم؛ هو المقرب والمحبوب، والذي مصيره الجنة خالدًا فيها!؟.
أما المخالف لهم؛ فهو المفتون الذي سقط، وهو المخالف الذي شق عصا الطاعة، وهو الذي خالف جماعة المسلمين، وهو الذي مصيره _ والعياذ بالله _ إلى النار!؟.
وتراهم إذا ذكر اسمه؛ فإنهم يمصمصون الشفاة، ويحوقلون، ويتمتمون بأدعية موحية؛ مثل (اللهم ثبتنا) أو (سلوا الله العافية) و(اللهم نجنا من الفتن)؛ فتأتي وكأنها رسائل إرهاب وتخويف صادمة للسامعين وللمخالفين؛ بل وللتابعين الموافقين الطائعين!؟.
ثم يأتون بعملية غريبة وجاهزة في الأدراج باستدعاء ملفات من القرآن الكريم والسيرة؛ تؤكد صواب رأيهم؛ مثل: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ". [العنكبوت2و3]
وقصص في غير موضعها؛ مثل (حاطب بن أبي بلتعة) و(كعب بن مالك) إلى (مسيلمة) و(أبي لؤلؤة المجوسي)!؟.
والأمثلة كثيرة؛ فأردوغان الذي قوبل بالهتاف والورود، هوجم في نهاية رحلته التاريخية؛ من نفس الأقلام وعلى نفس الألسنة!؟.
أما التعامل مع الآخر؛ فينظرون أولاً إليه بمجموعة من المحددات غير الدبلوماسية وغي المنصفة؛ وكأنها نظارة تحدد لون وملامح الآخر؛ مثل: هل على ملتنا؟. هل من بني جلدتنا؟. هل تاريخه السابق يسمح بسماعه؟. هل معنا أم معهم؟.
أما الأخطر؛ فهو ممارسة هذه الظاهرة داخليًا؛ عند الحوار والمناقشة والمحاسبة!؟.
فما هو الحل؟!:
لذا فنحن بدورنا نحاول أن نذكر أنفسنا ببعض المعالم في أدب الحوار والاختلاف؛ والتي يمكن أن تخرجنا من دائرة هذه الظاهرة المدمرة؛ وهو استكمال لبحث سابق بعنوان (ماذا حدث للإسلاميين؟!):
1-تعدد الصواب في المسألة الواحدة:
فلا أحد يمتلك أو يحتكر الحقيقة المطلقة إلا بنص؛ وهي نفس قضية مشروعية الإجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها، واعتبار كل من المتخالفين معذوراً ومثاباً؛ وذلك كما نراه في الواقعة المشهورة عندما نادى صلى الله عليه وسلم في المسلمين: "ألا لا يُصلينَّ أحد العصر، إلا في بني قريظة. فسار الناس، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، ولم يُرِدْ منا ذلك. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يُعنف أحدًا منهم". [رواه البخاري]
2- العدل والإنصاف مع المخالف:
ولنتأمل كيف كان القرآن الكريم منصفاً مع أهل الكتاب: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ". [آل عمران75]
ومن أهل الكتاب من اليهود مَن إنْ تأمنه على كثير من المال يؤدِّه إليك من غير خيانة, ومنهم مَن إنْ تأمنه على دينار واحد لا يؤدِّه اليك, إلا إذا بذلت غاية الجهد في مطالبته .
3- ضوابط وقواعد أدب الخلاف:
أولاً: الضوابط الفكرية؛ مثل: (الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسعة ـ التركيز على المحكمات لا المتشابهات ـ تجنب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية ـ التعاون في المتفق عليه ـ التسامح في المختلف فيه).
ثانياً: الضوابط الأخلاقية؛ مثل: (الإخلاص والتجرد من الأهواء ـ التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف ـ إحسان الظن بالآخرين ـ ترك الطعن والتجريح للمخالفين ـ البعد عن المراء واللدد في الخصومة ـ الحوار بالتي هي أحسن). [الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم: د. القرضاوي 59-253 بتصرف]
4- وقفات ... تربوية:
(1) إدراك أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة، من سنن الله عز وجل الإلهية. "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ". [هود 118-119]
(2) انظر إلى النصف الممتلئ من الكوب: (وهو ميزان العدل في الإسلام من غير إفراط ولا تفريط فإذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن). [سير أعلام النبلاء: عبد الله بن المبارك 8/352]
(3) الكمال البشري أمره صعب بل مستحيل لأنه (ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه؛ وهب نقصه لفضله). [البداية والنهاية: سعيد بن المسيب 9/100]
(4) الإنصاف عند تقييم الهيئات لأن المنصف يرى (أن للجماعة الحق في أن تخطيء، وأنها لا تنمو إلا إذا تعلمت كيف تتحمل المسؤولية كاملة لما تصدره من قرارات وما تحسمه من أمور). [كيف نعد قادة أفضل: ترجمة د. الطويحي 21]
(5) الأمور بمقاصدها؛ وهي القاعدة الأصولية؛ التي تدعو إلى حسن الظن بمن أساء التعبير.
كما نطق شاعر موضحاً ومنصفاً:
تقول هذا جني النحل تمدحــه … وإن تشـا قــلت ذا قئ الزنابير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما … والحق قد يعتريه سوء تعبيـــر
____________
خبير تربوي وعلاقات أسرية
hamdy_shoaib@hotmail.com