بقلم : مجدي مغيرة
 
قلت في مقال سابق أن الغرب يتحكم في منطقتنا من خلال ثلاث أضلاع هي :
 
·         زرع إسرائيل في المنطقة  والتمكين لها ومدها بكل أسباب القوة .
 
·         حكام المنطقة .
 
·         نخبة المنطقة .
 
وسنتكلم اليوم عن ترويض النخبة كيف تم ، وأثر ذلك على شعوب منطقتنا .
 
والنخبة تشمل  العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء  والفنانين والكتاب والمشايخ ورجال الأعمال وكبار الموظفين ، والشخصيات المتميزة في مجالها { كرة القدم – العمل الخيري – حقوق الإنسان – عضو مجلس الشعب – شخصيات نقابية  .....إلخ } .
 
تم ترويض النخبة أولا من خلال البعثات العلمية ، فقد كان الطالب المصري يذهب إلى أوربا وهو لا يملك من الحصانة الفكرية والروحية إلا القليل ، وما إن يستقر في فرنسا أو انجلترا  أو في أي بلد أوربي حتى تحدث له حالة انبهار كبيرة بما يراه من رقي ونظام وتقدم واحترام لآدميته ، ويقارن ذلك بموطنه ؛ فيرى الفرق كبيرا والبون شاسعا ، أضف إلى ذلك أن أغلب هؤلاء كان يتم تسكينهم مع أسر وعائلات أوربية ويعيش بينهم كأنه فرد منهم ، فيختلط اختلاطا كبيرا ببناتها وشبابها ، ويتشرب من خلال ذلك كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم ، وربما ديانتهم .
 
 ومن خلال المناقشات بينه وبين أساتذته الغربيين ، ومن خلال اختلاطه بتلك المجموعة المنتقاة من العائلات و الأسر الأوربية يقتنع شيئا فشيئا بأن تقدم الغرب إنما كان بسبب إهمال الدين ، وأن تخلف الشرق إنما كان بسبب تمسكه بمبادئ الدين .
 
 ونظرا لضعف حصانته الدينية وجهله بكثير من حقائق الإسلام يقتنع بتلك الأسباب ، وينقلب صاحبنا على دينه وحضارته ، بل يكون أشد قسوة على دينه من الأوربيين أنفسهم .
 
وقد عاد الكثير من هؤلاء  من الغرب وهم يحملون تلك الأفكار الهدامة ، وتولوا أرفع مناصب التوجيه في بلادهم في الجامعات والإعلام والمدارس ، ووضعوا المناهج التربوية التي أنشأت أجيالا كثيرة لا تعرف عن دينها وحضارتها إلا القليل ، وتم تشويه التاريخ الإسلامي وتزوير  التاريخ المعاصر .
 
 ونظرة موضوعية إلى مناهجنا الدراسية منذ أيام محمد علي باشا إلى الآن تبين لنا كيف كان يتم تشويه تلك الأجيال على مراحل بشكل متدرج ، تشويه شخصيتهم وتشويه أفكارهم ، وتشويه عواطفهم ومشاعرهم ، وكيف كان يتم تخريج الطلاب بأسلوب لا ينمي فيهم الإبداع ولا الابتكار ، ومن يفلت من ذلك ويبدع أو يبتكر يتم ترحيله إلى الغرب ليستفيدوا منهم ، ونكتفي نحن منهم بأن نفتخر بأن أصولهم مصرية ، تربوا على أرضنا ، وشربوا من نيلنا ، وتلونت وجوههم بأشعة شمسنا .
 
والغريب أن أغلب هؤلاء العائدين من أوربا ، كانوا يعودون بثلاثة أشياء :
 
1-      بشهادة الدكتوراه التي احتوت على مفاهيم مغلوطة عن أمتنا في نواحي كثيرة دينيا وعلميا وتاريخيا وثقافيا ... إلخ ، بل إن بعض تلك الرسائل احتوت على سباب صريح للرسول – صلى الله عليه وسلم -  وبجانب تلك المفاهيم المغلوطة كانت رسالة الدكتوراه التي حصَّلها الباحث تروج للمفاهيم الغربية في مختلف المجالات العلمية والأدبية ، ومعروف أن ما نسميه بالمدارس الأدبية في كتبنا المدرسية { الكلاسيكية – الرومانسية – الواقعية } إضافة إلى البنيوية والحداثة التي روجوا لها كثيرا في الجامعات ،  إنما هي مدارس أدبية وفكرية تخص الغرب ، ومن الخطأ الكبير أن ندرس أدبنا وتراثنا من خلال تلك المدارس الوافدة من الغرب ، ولا زلت أذكر أن الدكتورة سهير القلماوي في أواخر حياتها كانت تحاضرنا في كلية الآداب جامعة القاهرة وتذكر ندمها على دراسة الأدب العربي من خلال تلك المدارس ، وتحثنا على دراسة  أدبنا العربي من خلال قيمنا الحضارية بعيدا عن التقليد الأعمى للغرب ، ولما سمع أحد أساتذة النقد الأدبي بكلامها – وكان معروفا بميوله الشيوعية - علق عليه بقوله : { أصلها كبرت وخرَّفت } .
 
وقد ذكر الدكتور عبد العزيز حمودة في كتبه الثلاثة { المرايا المحدبة – المرايا المقعرة – الخروج من التيه } التي ألفها في آخر حياته عن النقد الأدبي العربي وضرورة  دراسة هذا الأدب من خلال قيمه الحضارية وليس من خلال قيم وحضارة الغرب ،  ذكر الدكتور عبد العزيز في كتبه هذه أمرا عجيبا حيث ذكر أن المخابرات الأمريكية هي التي تنفق على دعاة المدارس الأدبية في عالمنا العربي ، وطبعا الدكتور عبد العزيز حمودة لم يكن إسلاميا ، بل  كان علمانيا يهاجم التيارات الإسلامية ويدعو إلى فصل الدين عن الدولة .
 
2-      بزوجة من البلد التي اُبْتُعِث إليها ، وغالبا ما كان ينظر إلى زوجته نظرة إعجاب شديدة تقوده إلى الخضوع التام أو شبه التام لما تمليه عليه زوجته ، وغالبُ ما تُمْلِيه – بالطبع -  مفيدٌ لبلدها ، ضارٌ بشعبنا ، وقد رأينا بعضا منهم وهو يتولى منصبا حساسا في المؤسسة الدينية ، وكانت زوجته المسيحية الكاثولكية تعلق صليبا على باب الشقة التي تسكن فيها مع زوجها الذي يصنفونه في إعلامنا بالعالم المسلم المعتدل .
 
3-       بهدفٍ يخدم فيه مصالح الغرب ، يعمل على تحقيقه من خلال المناصب التي يتولاها مهما تعارض ذلك مع مصلحة بلاده ، وأذكر جيدا حينما زارنا أحد الدعاة الإسلاميين ، وكان مقيما في فرنسا ، وفي نهاية محاضرته سألنا عن أستاذ جامعي ، وذكر اسمه ،  ولم يكن الكثير من الموجودين يعرفه ، ولم يعرفه إلا الطلاب الذين يدرسون في الكلية التي يحاضر فيها ، وبعد أن عرف المحاضر طبيعة تخصص ذاك الأستاذ ، سألوه : لم تسأل عنه ، فرد قائلا : هذا الرجل يتردد اسمه كثيرا في فرنسا ، ويبدو أنه يتم إعداده ليتولى منصبا كبيرا في بلده .
 
وبعد فترة ليست بالقليلة تم تعيين ذاك الأستاذ في مناصب حساسة وظل يتدرج من منصب لآخر حتى أصبح أحد أعمدة الحكم الكبار في بلده .
 
ومن الملاحظ أن كثيرا ممن تولوا مشيخة الأزهر كانوا من الحاصلين على الدكتوراه - خصوصا في الفلسفة - من جامعات فرنسا تحديدا .
 
إن نخبة بتلك المواصفات لا يمكن أن تكون معبرة تعبيرا حقيقيا عن قيمنا ولا عن حضارتنا ، لكننا خُدعنا فيهم كثيرا ، وأحسنا بهم الظن ،  وقرأنا لهم ، وتبنينا أفكارهم ومفاهيمهم التي لم تزدنا إلا بعدا عن ديننا وحضارتنا ، وقد آن الأوان أن نعيد تقييمهم وتقييم أفكارهم حتى نخرج من التيه الذي مازال مستمرا في بلادنا منذ مائتي عام وحتى الآن .