بقلم : محمد جلال لاشين
عبارة مشهورة ، كثيرا ما نسمعها في سياق المكايدة السياسية والتلبيس الإعلامي وتشويه الخصوم ، حتى صارت أقرب شيء إلى ألسنة الخواص من سدنة الظلم والاستبداد ، وإلى ألسنة العوام الذين تعييهم الحيلة في تحري الحق والانتصار له .
لكن أكثر الناس استعمالا لها فيما أرى هم التيارات العلمانية التي تنادي بفصل الإسلام عن حياة الناس أو عن حياتهم السياسية على وجه الخصوص ، ممن هُزِمُوا هم وأشباههم في معارك انتخابية شريفة أمام التيارات ذات المرجعية الإسلامية في تصوراتها وبرامجها السياسية ، تلك المرجعية الصلبة في الثوابت والأصول ، والمرنة في المتغيرات والفروع ، والمتسعة لمختلف الاجتهادات ما انضبطت بأصولها وحققت مقاصدها .
ومع أن تلك العبارة لا تمثل مشكلة في ذاتها ، سواء من حيث صياغتها أو مقصودها ، فالتاريخ والواقع يشهدان على طغاة لم يحكموا الناس إلا بصرع الآخرين وإبادتهم .
إلا أن زجّها في سياق التلبيس على الناس ، سواء بنفي علاقة الإسلام بالسياسة ، أو بوصف التيارات ذات المرجعية الإسلامية التي اختارت أغلبية الناخبين في الشارع المصري بعضها ، ثم استلبها منها انقلابي غاصب بالحديد والنار هو ما يستحق منا شيئا من التأمل والتوضيح والرد :
***
إن الإسلام من حيث أنه كلمة الله الأخيرة إلى البشر ، التي أرسل الله بها رسوله رحمة عامة ، وليس للمؤمنين به دون الكافرين ، وليس للإنسان دون غيره ، بل رحمة للعالمين ، وحيث أن نصوصه ومبادئه تكاثرت على ضرورة إقامة العدل وعمارة الأرض ، لم يرض أن يعيش أتباعه في زاوية من زوايا الحياة يقتاتون على ما يقع من موائدها دون أن يكون لهم يدٌ في تنمية الخير في ربوعها ورعايته .
لم يرض أن يكون أتباعه بمعزل عما يقع في بلادهم من بغي وعدوان ، وسلب للحقوق وسحل للحريات وعبث بالمقدرات ، ورعاية للظلم والفساد ، فجعل واجبا عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويقيموا العدل ويحفظوا الحقوق ويصونوا كرامة الإنسان ، ويساهموا في عمارة الأرض وتنمية الحياة .
من هنا كانت عناية الإسلام بالسياسة - وعلى رأسها السلطة - كيف لا؟! وهو دين الجماعة كما هو دين الفرد ، ولا قيمة للفرد بغير أناس يشترك معهم في وطن واحد ، وهم واحد ، ومصير مشترك ، يسعون جمعيا في حمايته ورعايته ، والتنعم بخيره على السواء ، دون تمييز بينهم في الحقوق والواجبات .
ولقد فهم المسلمون الأوائل ذلك الأمر عن دينهم بيقين ، فأقاموا دولة العدل والإحسان ، وحضارة علمت الدنيا كيف يُحترم الإنسان ، فأبصر النور في كنفها ، وتذوق الشهد من معينها ، وعاش عزيزا آمنا موفور الكرامة .
***
فلا عجب إذن أن يفهم التيار الرئيس من مسلمي اليوم عن دينه نفس الأمر ، فناضل في مصر مع غيره من أبناء الوطن الواحد جنبا إلى جنب ، حتى اندلعت ثورة 25 يناير فحملوها جميعا على أكتافهم ، اختلفت مرجعياتهم الدينية والفكرية لكنهم اتفقوا على أن يعيشوا أخوة متساوين ، متحدين على من يفرق جماعتهم أو ينال من ألفتهم ، أو يعبث بحقوقهم .
وارتضوا في تلك الثورة أن تكون كلمة الشعب حكما وعدلا في اختيار من يسوسهم ، وكان ما كان مما لا يخفى على أحد من فوز فصيل سياسي ذي مرجعية إسلامية في أكثر من استحقاق انتخابي تميز صندوقه لأول مرة بالنزاهة والشرف .
لكن فلول البغي والفساد وسدنة الظلم والاستبداد كان لهم رأي آخر : فقد رأوا هذا الشعب أقل من أن يكون له الحق في إدارة شئون بلاده ، ومن أن تعلو كلمته فوق كلمتهم ، فكادوا له كيدا ، وأبرموا له أمرا ، حتى أطاحوا بكل ما اختاره وقال فيه كلمته .
لقد استكثروا عليه أن يعيش كما يعيش الناس في بلاد الناس ، وأن ينزلوا عن عروشهم وامتيازاتهم التى منحها لهم ليقرر بشأنها ما يشاء .. حتى كان خاتمة مكرهم ذلك الانقلاب الاغتصابي الهمجي الدموي غير المسبوق في 3 يوليو ، مشفوعا بجماهير 30 يونيو ، فخدعهم ونكل بمطالبهم ، تماما كما نكل باختيارات الأغلبية ، وأزهق معها أرواحًا ، وغيب وراء الأسوار أجسادًا ، واستباح فيها أعراضًا .
إن عبارة "صراع على السلطة" تصدق أول ما تصدق في حق أولئك الانقلابيين الذين ضيعوا الأمانة ، وخانوا العهود وقهروا الشعب ، واستكثروا عليه أن يرى ويقرر ويختار .
وإن هذا الشعب الذي تعلم أن التدافع بين الحق والباطل ، والظلم والعدل ، والاستبداد والحرية ، سنة قرآنية وضعها الله كي تستقيم الحياة وينزوي عنها الفساد ، لم يكن له أن يسترد حقه المسلوب بالصراع والإفناء والإبادة التي هي سنة شيطانية لا يعرفها إلا المستبدون البغاة .. وشتان شتان بين التدافع والصراع .
فقط هم المستبدون الذين لا يعرفون غير الصراع وسيلة إلى السلطة لا ليحكموا ، بل ليتحكموا في رقاب الخلق ، ويتجبروا في الأرض بغير الحق .. وهيهات أن تفلح أمة يقودها الاستبداد والبغي ، ويُدار أمرها بالافتراء والظلم .
وصدق الله القائل : "قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" .. "وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى" .. "إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" .. "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" .