شيرين عرفة : 


الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشراً أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة, وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة.))
هذا ما كتبه المفكر العربي ( عبد الرحمن الكواكبي ) في كتابه المبدع ( طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد ) والذي صدر في مطلع القرن الماضي عام 1902 م ..أي منذ ما يزيد عن مئة عام من الآن , وكأنه كان يشاهد المستقبل من بلورة سحرية ويصف  حال مصرنا الحبيبة بمنتهى الدقة والبلاغة وهي ترسخ تحت حكم العسكر طوال ستين عاما ماضية , وحينما ثار الشعب المصري على تلك الدولة الفاسدة  ( جمهورية الضباط ) كما وصفها بذلك الباحث ( يزيد صايغ ) في البحث الذي نشرته مؤسسة كارينحي للسلام الدولي بعنوان : ( فوق الدولة : جمهوية الضباط في مصر ) وهي الجمهورية التي تعلو فوق الدولة المصرية وتتحكم فيها , وتسيطر على ما يقرب من ستين بالمئة من إقتصادها , و تفانى مبارك في توطيد أركانها و إرساء دعائمها طوال ثلاثين عاما , حتى وصل الأمر بمدير حديقة الحيوانات بالجيزة أن يكون واحدا من لواءات الجيش المتقاعدين , بخلاف طبعا المحافظين و رؤساء مجالس المدن ومديري البلديات و رؤساء جميع شركاتنا القابضة وحتى مديري جمعياتنا الإستهلاكية , بينما باقي وظائف الدولة بكاملها من الطبيب للمحاسب للمعلم للفراش لا يتم تعيينهم بدون موافقة أمنية تأتي بعد تحريات أفراد جهاز أمن الدولة , هكذا كان حال مصرنا تحت حكم  الدولة الأمنية القمعية المستبدة .

لقد كان الفساد فيها أشبه ببالوعة ضخمة تمتلئ عن آخرها بكل صنوف الشرور والقاذورات , وتحيا بها الحشرات والعقارب والثعابين ويجلس فوق غطائها رئيس الدولة والمغذي الأعظم لروافدها , وكما ذكر ( الكواكبي ) كان ترتيب المناصب في تلك الدولة الفاسدة العفنة ترتيبا معكوسا , فكنا نرى أسافل الشعب المصري يتولون أعلى مناصب الدولة ..سواء في الحكومة أو القضاء أو الشرطة أو الإعلام , وكان المؤهل الوحيد الذي يتمتع به من يتقلد تلك المناصب هي الطاعة العمياء لمن وضعه في منصبه , وقد شاهد الشعب المصري كله رئيس أعلى محكمة مصرية ( محكمة الإستئناف بالقاهرة ) وثاني أعلى منصب قضائي في مصر لم يستطع أن يقرأ الكلام المكتوب له في الورقة والذي تدرب عليه من قبل , بل وأخطأ سبعين خطأ لغوي فاحش في مدة لا تزيد عن عشرين دقيقة , هتك بهم عرض اللغة العربية , قاضي تجاوز عمره الستين عاما لا يعرف اسم القائد الشهير ( قطز ) و لا نهر ( دجلة ) , ويصف المغول بقوله الإحتلال المغوري , بينما قاض آخر  وهو المستشار ( أحمد الزند) ( رئيس نادي القضاة ) لديه قضايا فساد وإستيلاء على أراضي و أموال للدولة تقدر قيمتها بعشرات الملايين ,  وفي وزارة الداخلية والشرطة المصرية  نرى قيادات  تعاني أمراضا نفسية مستعصية , يتحدث أحدهم في ( فيديو شهير ) عن كونه سيدا من أسياد الشعب , بينما يخاطب أساتذة الجامعة بقوله ( جميعكم تحت الجزمة ) , وضابط آخر يهتك عرض أحد الشباب أثناء التحقيق معه وآخر يموت تحت التعذيب ,

  أما إعلام تلك الدولة فهو صنيعة (جوبلز الإعلام المصري ) القواد سابقا ( صفوت الشريف ) وتلميذه من بعده ( أنس الفقي ) , حيث صنع آلة إعلامية ضخمة وبإنفاق يفوق كل وصف , و يسيطر عليه حفنة من المأجورين والمعتوهين والموتورين ..  إعلام دأب على بث السموم والأحقاد بين أفراد الشعب بأكمله وزرع الأوهام و الخرافات والضلالات في عقله  , حتى أصبح المحتوى الذي يقدم في إعلامنا مسخرة العالم كله ومادة للتندر في أكثر صحف العالم شهرة ومبيعا  , حتى أن جريدة ( ميدل إيست مونيتور ) البريطانية كتبت بتاريخ 30/ 8/ 2013 مانشيتا كبيرا تتسائل فيه بسخرية :( إلى أي هاوية يسقط الإعلام المصري ?) وأسفل منها كتبت  عنوانا آخر : ( إنهم يتحدثون عن أن أوباما عضو في تنظيم الإخوان !! ) وارفقت صورة من مانشيت جريدة الوفد المصرية التي ذكرت فيها تلك الكذبة السخيفة والمقززة . بخلاف طبعا الحديث عن الكرة الأرضية التي هي تحت الأرض , وشهداء رابعة الذين قتلوا أنفسهم وأحرقوا جثثهم ..

ولأن ثورة الشعب المصري في الخامس والعشرين من يناير كانت مفاجأة ومذهلة بكل المقاييس , فقد أستطاعت في أيام قليلة أن تسقط رأس الدولة وفتحت غطاء بالوعة الفساد , وبدلا من أن يستكمل الثوار مهمتهم في تطهير تلك البالوعة العفنة , تفرقوا واختلفوا , و سارع كل فصيل للحصول على مكاسبه , بينما الفصيل الأكبر الذي وصل لرئاسة الجمهورية وحاز على ثقة الشعب  فقد توانى في تطهير  الفساد وتنظيف العفن الذي أصاب البلاد , وظلت البلاعة تفور بما فيها حتى أغرقت الجميع , وضاعت السلطة وضاع معها كل شئ , وعادت مصر لما هو أسوأ عشرات المرات مما قبل الخامس والعشرين من يناير 2011 , لقد أصبحت معركة حياة أو موت بين الشعب المصري وبين جسد تلك الدولة العفنة الفاسدة , لقد فارت بالوعة القاذورات وأغرقت مصر بكاملها , ولا حل لنا سوى أن ننسف حمامنا القديم .

 

--------------

[email protected]

https://www.facebook.com/shireenhaytham