د. حلمي محمد القاعود
يظل الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل رمزًا للبوق الإعلامي الذي يخدم السلطة المستبدة في صورتها الدموية المتخلفة مهما أوتي من مفاتيح البلاغة المبهرة والصور التعبيرية المدهشة التي تظهر صاحبها في هيئة صاحب الرأي المستقل والإرادة الذاتية الخالصة. لقد ظل هيكل طوال ستين عامًا على حجر السلطة العسكرية التي سطت على الحرية في مصر عام 1954 ومنحت الديمقراطية والكرامة الإنسانية إجازة مفتوحة، وحين بدا للناس في مصر بعد ثورة يناير أنهم استعادوا الكرامة والحرية والديمقراطية باغتتهم السلطة العسكرية مرة أخرى بالانقلاب الدموي والترويع الأمني والإرهاب البوليسي وفقًا لمشورة هيكل ألتي ألح عليها منذ مارس الماضي وحرك بها صبيانه في الصحافة والإعلام والندوات والمؤتمرات عندما تحدث إلى أم جميل على شاشة التلفزيون وطالب باستدعاء الجيش لضبط الحياة السياسية بصورة لا تبدو انقلابًا عسكريًّا، وهو ما نفذه قائد الانقلاب الدموي الذي لم يستطع أن يخافت بوقع البيادة العسكرية على رأس الدولة والمجتمع الدولي، فقد كان وقع خطواتها صاخبًا ومجلجلاً ومريعًا، لقد ألقى إلى صفيحة الزبالة باختيار الشعب المصري في الاستفتاءات والانتخابات التي شكلت المجالس التشريعية واللجنة التأسيسية والدستور ورئاسة الجمهورية. تلا ذلك مذابح غير مسبوقة في تاريخ مصر.
يوم فقدت الولايات المتحدة عددًا أقل من العدد الذي قتل واحترق أو طبخ في رابعة العدوية شنت حربين طويلتين انتقامًا لقتلاها منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 ولم تنتهيا عمليًّا حتى الآن، وراح ضحيتهما ملايين القتلى والجرحى عدا ما تخلف من أرامل ويتامى ومعاقين.
هيكل لم تصله فيما يبدو أصداء المجازر في الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة العدوية والنهضة ورمسيس ومسجد الفتح والمنصورة وأماكن أخرى ولا حرق مقرات الإخوان وممتلكاتهم ومحلاتهم في أرجاء مصر المحروسة بمعرفة الطرف الثالث إياه، ولكنه كان مشغولاً بهجاء الإخوان المسلمين وتحليل دمائهم وأموالهم وممتلكاتهم والإشادة بقائد الانقلاب الذي رآه أكثر شبابًا مما كان يتوقع.
وحين قام بعض المسجلين بالهجوم على بيت هيكل في برقاش وأشعلوا فيه النار وأحرقوا مكتبته، تحرك صبيانه في كل الصحف وأجهزة الدعاية للحديث عن المكتبة التي أحرقها الإخوان الجهلاء أعداء العلم والفكر والثقافة، وفرشت إحدى تلميذاته التي بلغت أرذل العمر الملاية للإخوان طيور الظلام أعداء الحياة الذين خططوا للقضاء على حصاد العمر الذي جمعه الأستاذ بالأموال الطائلة، ولم تزل عيناه في الغربة تذرف دمعًا لا جفاف له ولا مهرب منه عندما نقل إليه نبأ المحرقة. حريق كتبه.. حرقة ضياع كنوزه.. حصيلة الأيام والسنين واللقاءات والاقتراب والارتحال.. أول كتاب وأحدث كتاب. الركن القصي الذي أودعه آخر المقتنيات التي يزمع قراءتها.. طريقة تصنيفه واختياراته في رفوف السياسة والتاريخ والأدب والشعر وخرائط الكون ومذكرات الخالدين, فالثقافة أحد مكونات عقله, وعلى صفحات ذاكرته من التراث الشعري العربي, دواوين ومعلقات توشي بأبياتها جفاف الرأي السياسي فتحوله بقدرة الشعر إنسانيًّا سمحًا.. سطور في صفحات علم عليها لتأصيل شرحه وفهرسة نهجه وتشفير ناقده.. كلمات ليست كالكلمات.. أوراق ليست كمثلها أوراق.. كتب ليس لقيمتها ثمن... إلخ.
التلميذة الوفية لأستاذها بوق الاستبداد والعار والهزائم لم تلطم ولم تصرخ ولم تبك شهيدًا بريئًا في عمر أولادها؛ سقط على أرض رابعة مضرجًا بدمائه الزكية ولم يكتف المجرمون القتلة بذلك بل أحرقوا الموتى والأحياء ثم كسحوهم بالجرافات وألقوا بهم في حاويات الزبالة. ألست الهانم التي تبكي وتولول على هيكل ومكتبته لم يهتز لها رمش أو يختلج لها جفن وهي تشاهد على شاشات الفضائيات ما فعلة الانقلابيون القتلة ولكنها اهتزت وارتعشت ولطمت وصوتت عندما احترقت كتب هيكل المتهم بحرقها الإخوان الظالمون؟! وتنتظر أن تحتفل بعيد ميلاده التسعين وترى أنه لا بد أن يقول كل ما في جعبته الحرام قبل أن ينصرف!
هيكل اتهم الإخوان رسميًّا في بلاغ للنيابة عن طريق محاميه بحرق مكتبته والتخطيط لذلك في اعتصام رابعة، وكرر الاتهام في حواره مع أم جميل على شاشة التلفزيون قائلاً: "إن أمر الهجوم (يقصد الحريق) صدر من ميدان رابعة في نفس اليوم الذي تم فيه فض الاعتصام.
وأضاف: هناك مكتبتان تعرضتا للحريق الكامل إحداهما تحمل في طياتها أمورًا مهمةً، منها كتاب وصف مصر في عام 1807-1808 وقد طبع منه فقط 800 نسخة وكنت حريصًا جدًّا عليه وواحد تحت رقم 25 يحمل خرائط وجميعها يحمل صورًا، إلى جانب عدد هائل من الوثائق التاريخية التي تعود إلى عهود الخديوي وإلى مصطفى كامل وجمال عبد الناصر، بالإضافة إلى عدد كبير جدًّا من اللوحات الفنية النادرة".
بيد أن الأهرام صبيحة حديثه التلفزيوني نشرت أنه تم القبض على من أحرق المكتبة الهيكلية ولم يكن إخوانيًّا لحسن الحظ.
قالت الأهرام في 14/9/2013:
"تمكنت أجهزة الأمن بالجيزة من القبض على مرتكبي واقعة إشعال النيران بفيلا الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل والاستيلاء منها على عدد من الوثائق التاريخية وحرقها وحرق نقطة شرطة المنصورية خلال الأحداث التي شهدتها البلاد عقب أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة.... وأمام العميد مصطفى عصام رئيس مجموعة الأمن العام بالجيزة اعترف المتهم عبد الرازق جمال23 سنة- قهوجي بأنه قرر بالاشتراك مع آخرين إضرام النيران بنقطة شرطة المنصورية وسرقة محتوياتها كما قام المتهم وآخرون بسرقة محتويات الفيلا ملك الكاتب محمد حسنين هيكل وعثر بحوزة المتهم على شارتين عسكريتين برتبة نقيب وعلبتي سيجار خشبيتين ومطواة وتبين من التحريات أن المتهم محكوم عليه وهارب من 5 قضايا واعترف المتهم تفصيليًّا بالاشتراك مع المدعو محمد عبد الفتاح عبد المحسن أحمد بسرقة الفيلا ويكثف رجال الأمن تحقيقاتهم لضبط الوثائق التاريخية والمقتنيات الأثرية التي استوليا عليها من مكتبة الكاتب الصحفي وتمت إحالتهما إلى النيابة التي تولت التحقيق".
بالطبع لن يعتذر هيكل وصبيانه للإخوان المسلمين، كما أنهم لن يعتذروا للشعب المصري الذي حرضوا على قتل أكثر من خمسة آلاف من أبنائه وإصابة أكثر من عشرة آلاف بعضهم إصابته خطرة، وإذا كان صبيانه يبكون عليه ويلطمون من أجله، فإن الشعب يبكي منه ومن جرائمه، وأظن أنه لن يتوقف عن البكاء أقصد بكاء الأمهات والثكالى الذين فقدوا فلذات الأكباد حتى يقف هيكل أمام محكمة عادلة تحاسبه على جرائمه منذ عام 1954 حتى الآن حيث برر وسوغ وحض على جرائم لا تسقط بالتقادم في مقدمتها اغتيال الحرية وتدمير الوطن وقتل الأبناء!!!