في مشهد تاريخي يطوي صفحة عقود من الاستبداد، ويفتح صفحة جديدة في تاريخ الشام، أحيا الرئيس السوري أحمد الشرع، اليوم الاثنين، الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام بشار الأسد، وذلك في احتفالية مهيبة بدأت مع خيوط الضوء الأولى، خلال مشاركته في صلاة الفجر بالمسجد الأموي في قلب العاصمة دمشق. وقد جاءت هذه الفعالية لتؤكد التزام القيادة الجديدة بإعادة بناء سوريا ومواجهة التحديات الجسام جنباً إلى جنب مع الشعب الذي دفع أثماناً باهظة في سبيل حريته.

 

وقالت رئاسة الجمهورية، في بيان رسمي يوثق هذه اللحظات الفارقة، إن الرئيس الشرع أدى صلاة الفجر في رحاب المسجد الأموي العريق احتفالاً بذكرى "تحرير سوريا"، في وقت كانت فيه مآذن البلاد تصدح بصوت واحد. وتزامن ذلك مع إقامة "تكبيرات النصر" التي عانقت عنان السماء في مساجد دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس وحماة وإدلب، إيذانًا ببداية فعاليات الاحتفال الرسمي بهذه المناسبة الوطنية الجامعة، ولتعلن أن سوريا اليوم هي جسد واحد من شمالها إلى جنوبها.

 

"أطيعوني ما أطعت الله فيكم".. عهد القائد للشعب

 

وفي كلمة مؤثرة ألقاها عقب الصلاة، رسم الرئيس أحمد الشرع ملامح المرحلة المقبلة، معلناً تمسكه بالقيم الدينية والأخلاقية في قيادة الدولة، ومستعيداً إرث الخلفاء الراشدين في تحمل المسؤولية. وقال الشرع في كلمته التي وجهها للجموع: "أيّها السوريون أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فوالله لن يقف في وجهنا أي أحد مهما كبر أو عظم، ولن تقف في وجهنا العقبات، وسنواجه جميعاً كل التحديات بإذن الله".

 

ولم يكتفِ الرئيس بالحديث عن القيم، بل انتقل إلى ورشة العمل الكبرى التي تنتظر البلاد، حيث شدد على أن إعادة الإعمار ستكون شاملة ولن تستثني منطقة، مؤكداً أنها ستشمل البلاد "في جميع المحافظات". وأضاف بنبرة ملؤها التصميم: "من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها بإذن الله، سنعيد سوريا قوية ببناء يليق بحاضرها وماضيها، ببناء يليق بحاضرة سوريا العريقة"، في إشارة واضحة إلى استعادة الدور الحضاري لدمشق كقلب نابض للعروبة.

 

رمزية "ثوب الكعبة".. رسالة محبة من مكة للشام

 

وفي لفتة تحمل دلالات سياسية وروحية عميقة، وتعكس عودة الدفء للعلاقات العربية، كشف الشرع خلال الاحتفال عن وضع قطعة من ثوب الكعبة المشرفة في المسجد الأموي. وأوضح الرئيس أن هذه القطعة الثمينة هي هدية كريمة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قُدمت له عقب زيارة الرئيس السوري للمملكة وأدائه مناسك العمرة مؤخراً.

 

وعن دلالة هذا الحدث، قال الشرع: "آثرنا أن تكون هذه القطعة في مسجد بني أمية، لتتحدّ بذلك الدول، وتمتد أواصر المحبة والأخوة من مكة المكرمة إلى بلاد الشام، واخترنا أن يكون تدشينها في اللحظات الأولى لذكرى النصر"، ليؤكد بذلك أن سوريا الجديدة تعود إلى عمقها العربي والإسلامي من أوسع الأبواب.

 

"أسبوع النصر".. طي صفحة الحقبة الدموية

 

وعلى الصعيد الشعبي، يواصل السوريون في مختلف المحافظات، بقلوب ملؤها الأمل، الاحتفال بمرور عام على انتهاء حكم نظام الأسد، تلك اللحظة التي تحققت بعد معركة "ردع العدوان" الحاسمة التي انطلقت شرارتها من حلب في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وتدحرجت ككرة الثلج قبل أن يدخل الثوار دمشق فاتحين بعد 11 يوماً فقط من انطلاق العمليات.

 

ويرى السوريون اليوم أن سقوط النظام السابق يمثل نهاية حقيقية لحقبة طويلة ومظلمة من القمع والانتهاكات الممنهجة، وهي حقبة امتدت خلال 14 عامًا من الثورة السورية الدامية، وشهدت مآسي إنسانية واسعة وجرائم لا تسقط بالتقادم بحق المدنيين العزل. وفي ختام كلمته بالمسجد الأموي، دعا الشرع الله أن يحفظ البلاد ويسدد جهود أبنائها في ورشة إعادة البناء وخدمة الشعب السوري في مرحلة ما بعد التحرير.

 

طوفان بشري وعلم بطول 500 متر

 

وفي مشهد يعكس التلاحم الشعبي، بدأت أعداد حاشدة من السوريين التجمع في ساحة الأمويين الشهيرة في دمشق للاحتفال بذكرى الثورة السورية المجيدة. وأشارت وكالة الأنباء السورية (سانا) إلى فعالية مميزة لأهالي حي الميدان الدمشقي العريق بمناسبة "الذكرى الأولى ليوم التحرير"، والتي انطلقت تحت عنوان "أسبوع النصر".

 

ويستذكر السوريون تاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حين تمكن الثوار السوريون من دخول العاصمة دمشق، معلنين إطاحة نظام بشار الأسد (2000- 2024) إلى الأبد، وهو النظام الذي ورث الحكم عن أبيه حافظ (1970- 2000)، ليسدل الستار على حكم العائلة الواحدة.

 

وفي مظاهر احتفالية غير مسبوقة، رفع المحتفلون أطول علم للبلاد بطول بلغ 500 متر، ليكون رمزاً لوحدة الأراضي السورية. وبثت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) مقطع فيديو يظهر حشوداً غفيرة في ساحة العاصي وهم يرفعون العلم بزهو، وسط أناشيد ثورية حماسية، بينما رفع المشاركون أعلاماً سورية خفاقة وهم يرددون الشعار الخالد: "ارفع راسك فوق، أنت سوري حر".

 

مطالب بالمحاسبة والعدالة الانتقالية

 

ولم تخلُ الاحتفالات من الرسائل السياسية، حيث رفع المحتشدون شعارات تطالب بالتمسك بوحدة الأراضي السورية وضرورة تعزيز السلم الأهلي والعيش المشترك بين كافة مكونات الشعب. كما طالبوا الحكومة الحالية بضرورة تفعيل مسار العدالة، ومحاسبة رموز النظام المخلوع الذين ارتكبوا جرائم حرب مروعة بحق السوريين خلال سنوات الثورة، مؤكدين أن المصالحة لا تعني نسيان حقوق الضحايا.

 

وفي شارع خالد بن الوليد، أعرب المواطنون في مقابلات ميدانية عن اعتزازهم بالانتصار الكبير الذي تحقق بتحرير كامل أراضي سوريا من قبضة النظام البائد، معتبرين أن الذكرى الأولى للتحرير تمثل محطة مشرقة ومفصلية في مسار النضال السوري الطويل.

 

وتمنح هذه الذكرى الأجيال الجديدة فرصة ذهبية لفهم تاريخ وطنهم الحقيقي والمشاركة الفاعلة في بناء مستقبله، وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة والقيم الثقافية الأصيلة من خلال التعليم والفنون والأنشطة المجتمعية. وتأتي هذه الفعاليات لتؤكد الوفاء لدماء الشهداء وتضحيات العسكريين والمدنيين الذين صنعوا هذا النصر، معبّرة عن انطلاقة فصل جديد من العمل والبناء والتنمية التي تصنع سوريا الحرة والمستقرة والمزدهرة التي يطمح إليها كل مواطن.