في خطوة تصعيدية تعكس تحولاً جذرياً نحو التضييق الأمني وإنهاء هامش الحريات الذي طالما تغنت به الكويت، أشهرت السلطات الكويتية "سلاح الجنسية" الفتاك في وجه أحد أبرز الرموز الفكرية والدعوية، الدكتور طارق السويدان.
فقد نشرت الجريدة الرسمية مرسوماً ممهوراً بتوقيع أمير البلاد، يقضي بتجريد السويدان من جنسيته الكويتية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد العقاب ليشمل "التبعية"، أي معاقبة عائلته وأبنائه بجريرة والدهم، في سابقة تكرس مبدأ "العقاب الجماعي" وتضرب بعرض الحائط كافة المواثيق الحقوقية والإنسانية التي تجرم استخدام الهوية الوطنية كأداة للابتزاز السياسي وتصفية الحسابات مع الخصوم الفكريين.
إعدام مدني بمرسوم أميري: تسييس الهوية الوطنية
يمثل القرار الصادر بحق السويدان ومن معه حلقة جديدة ومرعبة في مسلسل "تسييس المواطنة". فبدلاً من أن تكون الجنسية حقاً أصيلاً ورابطاً قانونياً بين الفرد والدولة، تحولت في العهد الجديد إلى "منحة" يلوح بها النظام في وجه كل من يغرد خارج السرب، وتُسحب بجرّة قلم من كل من يخالف التوجهات الرسمية.
إن استهداف شخصية بحجم السويدان، المعروف بآرائه الفكرية وانتمائه لتيار له جذور في المجتمع الكويتي، لا يمكن قراءته في سياق قانوني إداري بحت، بل هو رسالة ترهيب سياسية واضحة، مفادها أن لا حصانة لأحد، وأن سيف السلطة مسلط على رقاب الجميع.
إن نزع الجنسية هو بمثابة "إعدام مدني" كامل، يحرم المواطن من حقوقه الأساسية في الصحة والتعليم والتنقل، ويحوله بين ليلة وضحاها إلى "بدون" أو "أجنبي" في وطنه الذي نشأ فيه، وهو أسلوب لا تلجأ إليه إلا الأنظمة التي تضيق ذرعاً بالرأي الآخر وتعجز عن مواجهة الفكر بالفكر، فتستعيض عنه بالإلغاء الوجودي.
العقاب الجماعي.. انحدار قيمي وقانوني
لعل الأخطر في هذا المرسوم هو شموله لمن حصلوا على الجنسية "بالتبعية"، وهو ما يعني معاقبة الأبناء والأسرة بذنب لم يقترفوه. هذا النهج يمثل انحداراً قيمياً وقانونياً خطيراً، ويعيد الكويت إلى عصور القوانين القبلية التي تؤخذ فيها العشيرة بجريرة الفرد.
إن استخدام أسر المعارضين أو المفكرين كرهائن للضغط عليهم أو للتنكيل بهم هو ممارسة تدينها كافة المنظمات الحقوقية الدولية.
فكيف لدولة تدعي أنها "دولة مؤسسات وقانون" أن تحرم أطفالاً أو شباباً من هويتهم الوطنية لمجرد أن والدهم يتبنى أفكاراً لا تروق للسلطة الحاكمة؟
إن هذا الإجراء يخلق جرحاً غائراً في النسيج الاجتماعي الكويتي، ويؤسس لطبقة جديدة من المظلومين والناقمين، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي على المدى البعيد ويفقد الدولة هيبتها الأخلاقية أمام مواطنيها وأمام العالم.
الكويت: من "واحة الديمقراطية" إلى "دولة الخوف"
يكشف هذا القرار، وما سبقه من قرارات مماثلة طالت العشرات، عن تحول منهجي في بنية النظام السياسي الكويتي. فبعد أن كانت الكويت تُوصف بأنها "الاستثناء الخليجي" ببرلمانها القوي وصحافتها الجريئة، باتت اليوم تنزلق بسرعة نحو نموذج "الدولة الأمنية" التي لا صوت يعلو فيها فوق صوت السلطة التنفيذية.
لقد أصبحت "لجان سحب الجناسي" أداة رعب مسلطة على المجتمع، تهدف إلى تدجين النخب وإسكات الأصوات الناقدة، وخلق مجتمع من "المواطنين الخائفين" الذين يخشون التعبير عن آرائهم خوفاً من فقدان هويتهم. إن هذا النهج لا يبني وطناً قوياً، بل يبني وطناً هشاً قائماً على النفاق والمداهنة.
إن استسهال السلطة لاستخدام ورقة الجنسية في المعارك السياسية هو لعب بالنار، وضرب في صميم العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة، وهو مؤشر خطير على أن الكويت تدخل نفقاً مظلماً من الاستبداد الذي لا يحترم تاريخها ولا مكانتها السابقة كمنارة للحريات في المنطقة.

