بات مصطلح "التطرف الديني" الشغل الشاغل للغيورين على هذه الأمة، والهاجس الذي يؤرق المفكرين والدعاة في ظل هجمة شرسة تستهدف الجيل المسلم. لقد تحول هذا المفهوم، بفعل التوظيف الإعلامي والسياسي المكثف، إلى "فزاعة" تُشهر في وجه الدعوة الإسلامية لشلها وتعطيل مسارها، حتى أصبح أداة في يد أعداء الإسلام لصناعة "الإرهاب الفكري" والتشكيك في ثوابت الدين.
ويرى الدكتور عمر عبيد حسنة أن هذه الورقة تسعى لتفكيك هذا المصطلح الملغوم، والبحث في جذوره التاريخية، والتمييز بين "التطرف المصنوع" لتشويه الإسلام، وبين "الغلو المرفوض" الذي حذرنا منه الشرع، مستندة في ذلك إلى رؤية العالم الفقيه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف".
صناعة "الفزاعة": المصطلح وسلاح الأعداء
إن المتأمل في شيوع مصطلح "التطرف" يدرك أنه لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج هندسة فكرية خبيثة يقودها أعداء الأمة. فقد عمد هؤلاء إلى تسليط الضوء على بعض المظاهر الشاذة وتضخيمها تحت المجاهر الإعلامية، ليصنعوا منها "بعبعًا" يخيفون به الحكام ويحرضون به المتنفذين ضد الدعاة المخلصين.
والملفت للنظر تاريخيًا أن هذا المصطلح استُخدم لأول مرة في كيان الاحتلال الإسرائيلي، كرد فعل مذعور عندما بدأ الشباب المسلم في الأرض المحتلة يستعيد وعيه الذاتي ويعود إلى هويته الإسلامية، بعد فشل كل الشعارات القومية واليسارية التي كانت مجرد "صمامات أمان" لتنفيس الغضب . فإسرائيل، التي تدرك أن الإسلام هو درع الأمة وعدة كفاحها، لم تخفِ رعبها من "عودة المتطرفين" –حسب وصفها– وسعت بكل وسيلة لوأد هذا الصوت الإسلامي الصاعد.
الإسلام دين الوسطية.. والغلو "هلاك"
رغم المؤامرة الخارجية، لا يمكننا إنكار الحقيقة الشرعية: الإسلام هو دين التوسط والاعتدال، والغلو والتطرف والانحراف مرفوض جملة وتفصيلا، مهما كانت المبررات . فالغلو آفة قديمة أهلكت الأمم السابقة، وحذرنا الله منها في كتابه الكريم.
ولا يخلو التاريخ الإسلامي من فترات ظهر فيها الغلو والتطرف كـ "نقاط سوداء" أنهكت جسد الأمة وشغلتها عن رسالتها وعن مواجهة عدوها. لكن الميزة الكبرى في الإسلام هي أن "المشروعية العليا" تظل دائمًا للكتاب والسنة، وهما الميزان الدقيق الذي يضبط الانحراف ويصحح المسار، مصداقًا لقول النبي ﷺ: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد).
قصور المعالجة: البحث في الآثار وإهمال الأسباب
تكمن المشكلة الكبرى في معظم الكتابات التي تناولت ظاهرة التطرف في أنها وقفت عند سطح الظاهرة، مكتفية بمعالجة "الآثار" وإهمال البحث الجاد في "الأسباب" الحقيقية. والأنكى من ذلك، أن كثيرًا ممن تصدوا للكتابة في هذا الشأن يفتقرون إلى العلم الشرعي الرصين، بل ويفتقدون للحد الأدنى من السلوك الإسلامي القويم .
هذا القصور المعرفي والأخلاقي يفرض ضرورة ملحة لتنقية الساحة الثقافية، وتصويب المفاهيم المغلوطة التي قد تكون نتاجًا لردود فعل عاطفية غير منضبطة، وذلك عبر الأخذ بيد الجيل المسلم وترشيده وفق المقياس الإسلامي الصحيح.
مسؤولية العلماء: حراس الوعي
إن تصحيح المفاهيم ومواجهة الغلو والجحود معًا هو "فريضة شرعية" تقع على عاتق العلماء الربانيين العدول. هؤلاء هم ورثة الأنبياء الذين وصفهم النبي ﷺ بأنهم (ينفون عن العلم تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) .
ومن هنا تأتي أهمية كتاب "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" للعلامة يوسف القرضاوي، الذي يجمع بين فقه الشريعة وخبرة الميدان الدعوي. فالقرضاوي، بدقته العلمية وحرارته الدعوية، يقدم في هذا الكتاب خارطة طريق لتفكيك هذه الإشكالية المعقدة، مؤكدًا أن الحل يكمن في العودة إلى وسطية الإسلام الحقيقية، وتفعيل واجب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كصمام أمان للمجتمع، وحق من حقوق الموالاة بين المؤمنين.

