فتحت حادثة مقتل شخص في قرية منيحة بمركز كوم أمبو في أسوان، إثر إطلاق النار من أعلى أحد الأسطح خلال مشاجرة، ملف انتشار الأسلحة وغياب الأمن عن مشكل الصعيد فهذه الحادثة ليست حادثة فردية ولا استثناءً عابرًا، بل هي حلقة في مسلسل دموي متواصل يعيشه الصعيد منذ سنوات.
فالمشهد بات متكررًا: مشاجرة عائلية تتحول بسرعة إلى ساحة قتال بالأسلحة النارية الثقيلة، أرواح تُزهق بلا ثمن، والدولة – ممثلة في أجهزتها الأمنية – غائبة أو متغافلة، وكأنها تتعامل مع الصعيد باعتباره ساحة خارجة عن السيطرة. التخاذل الأمني هنا لم يعد مجرد تقصير إداري، بل جريمة شراكة صامتة في استمرار نزيف الدم.
السلاح… عنوان الحياة اليومية
في محافظات الصعيد، من أسوان إلى سوهاج وقنا والأقصر، صار السلاح الناري جزءًا من المشهد اليومي. لا تكاد تخلو قرية من مخازن سرية للسلاح، ولا تمر مناسبة – سواء فرح أو مأتم – إلا ويُطلق فيها الرصاص بشكل علني، كأنها لغة تفاخر اجتماعي. بعض العائلات لا ترى في اقتناء البنادق والرشاشات مخالفة للقانون، بل تعتبره ضرورة لحماية النفوذ وردع الخصوم، في ظل قناعة مترسخة بأن الدولة لن تحمي أحدًا.
غياب الأمن كعامل رئيسي
المسؤولية الأولى تقع على الأجهزة الأمنية. فحجم انتشار السلاح اليوم ما كان ليصل إلى هذه الدرجة لولا غياب حملات جدية لنزعه، وتجاهل البلاغات، والاكتفاء بحضور شكلي بعد وقوع الكارثة. في كثير من الحالات، تصل قوات الأمن إلى موقع المشاجرة بعد أن تكون الدماء سالت والضحايا سقطوا. هذا الغياب يفتح الباب واسعًا أمام القتل والثأر، ويُشجع العائلات على الاعتماد على قوتها المسلحة بدلًا من القانون.
تجارة مربحة تحت سمع وبصر الدولة
انتشار السلاح في الصعيد لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة سوق موازٍ يعمل منذ سنوات. فأسلحة تُهرّب عبر الحدود، وأخرى تُباع في أسواق سرية محمية بعلاقات قبلية ونفوذ محلي. المفارقة أن هذه التجارة تجري تحت أنظار السلطات، وأحيانًا بتواطؤ بعض العناصر، لتتحول إلى مصدر رزق ثابت للبعض ومصدر خراب للمجتمع كله.
العرف القبلي بديل الدولة
غياب الأمن جعل من العرف القبلي والقوة المسلحة المرجع الأول لحل النزاعات. حين تنشب خلافات بين عائلات أو قرى، لا يُنتظر تدخل الدولة، بل تُرفع البنادق أولًا، ثم يتدخل "الكبار" للصلح بعد سقوط الضحايا. هذا الاعتماد على السلاح يعيد المجتمع خطوات للوراء، حيث تسود قوانين الغابة على حساب القانون المدني، وتُرسّخ ثقافة أن "الحق يؤخذ بالقوة".
الإعلام الرسمي يتجاهل… والناس تدفع الثمن
في الوقت الذي تتكرر فيه أخبار القتل بالرصاص في الصعيد بشكل شبه يومي، يغيب الملف عن النقاش الجاد في الإعلام الرسمي. وكأن ما يجري مجرد "خلافات عائلية" عابرة، بينما هو في الحقيقة ظاهرة أمنية خطيرة تكشف هشاشة الدولة في واحدة من أهم مناطقها. هذا التجاهل يضاعف شعور الناس بأن أرواحهم بلا قيمة لدى السلطة.
وأخيرا فإن حادثة منيحة في كوم أمبو هي وجه واحد لمأساة ممتدة: انتشار السلاح في الصعيد وتحوله إلى جزء من هوية المكان، في ظل غياب شبه كامل للأمن. الدولة التي تُفاخر بإنجازات في العاصمة الجديدة والمشروعات الكبرى، تفشل في أبسط واجباتها: حماية الأرواح في القرى. استمرار هذا الإهمال يعني مزيدًا من الدماء، ومزيدًا من انهيار الثقة بين المواطن والسلطة. وفي النهاية، يبقى السؤال: إلى متى يظل الصعيد خارج حسابات الدولة إلا حين يتصدر صفحات الحوادث؟