في صباح من أوائل يونيو، بدا مثلث الحدود بين السودان ومصر وليبيا هادئًا كالمعتاد، لكن تحت هذا السكون اختبأت شرارة صراع أوشكت على الاشتعال. في السادس من يونيو، اخترقت قوة تابعة لكتيبة "سبل السلام" المتحالفة مع قوات خليفة حفتر الحدود السودانية بعمق ثلاثة كيلومترات قرب جبل العوينات، وواجهت عناصر سودانية مدعومة من الجيش النظامي. لاحقًا، انتشر مقطع فيديو لقائد في قوات الدعم السريع يوجه رجاله بالانسحاب من الأراضي المصرية قائلاً: "هذه ليست أرضنا". أوضح هذا الحادث مدى تعقّد خطوط التماس بين السودان ومصر وليبيا، وامتداد الحرب السودانية إلى محيط إقليمي أوسع.
يشكّل هذا المثلث الحدودي – المتاخم أيضًا لتشاد – منطقة جغرافية بالغة الحساسية. تُمثّل هذه الصحراء النائية ممرًا مفتوحًا لشبكات التهريب والجماعات المسلحة العابرة للحدود. منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، تحوّلت هذه المنطقة إلى بؤرة للفوضى، ونقطة التقاء لتهريب الأسلحة والذهب والمخدرات، فضلًا عن الهجرة غير النظامية. بين عامي 2011 و2014، ساهم تدفق الذهب من دارفور عبر ليبيا والنيجر إلى موريتانيا في تأجيج التنافس على هذه المسارات.
عقب الحادث، اتهم الجيش السوداني قوات حفتر بالتعاون مع قوات الدعم السريع في الهجوم على مواقعه. في 11 يونيو، أعلنت ميليشيا الدعم السريع عبر "تيليجرام" سيطرتها الكاملة على المنطقة، مما مثّل تحولًا مهمًا في مسار الصراع داخل السودان.
نفت قوات حفتر هذه الاتهامات، واعتبرتها محاولة لتصدير أزمة السودان الداخلية. وأوضحت أن هدفها عدم الانخراط في هذا الصراع.
يرى حفتر في السودان جبهة رخوة قابلة للاستغلال، ويجد في قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) حليفًا مفيدًا، خصوصًا بعد سيطرته على مناجم ذهب رئيسية في دارفور وكردفان. تُمَوِّل هذه المناجم مجهود حميدتي الحربي، ما جعل الجنوب الليبي والمثلث الحدودي امتدادًا لساحة المعركة السودانية. دوافع ليبيا هنا ليست أيديولوجية أو رسمية، بل مزيج من المصالح العسكرية والتجارية، بالإضافة إلى مكاسب جيوسياسية من خلال نفوذ حفتر على حدود السودان وتشاد.
هذه التطورات وضعت مصر في موقف حرج. ترتبط القاهرة بعلاقة وثيقة مع حفتر، وتعتبره حليفًا أساسيًا في تأمين حدودها الغربية واستقرار شرق ليبيا. وفي الوقت ذاته، تدعم الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وتراه الجهة الشرعية الوحيدة في السودان. لذا، أثارت تقارير تفيد بتورط قوات مدعومة من حفتر في دعم الدعم السريع قلقًا في القاهرة.
ركّزت مصر على تأمين حدودها الجنوبية مع السودان باعتباره أولوية أمنية قصوى. حذّر رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي من أن انهيار الدولة السودانية أو تصاعد نفوذ الميليشيات سيُهددان الأمن القومي المصري. أثارت مشاهد الاشتباكات بين قوات ليبية متحالفة مع القاهرة وميليشيا تُعد خطًا أحمر لمصر حالة من القلق الرسمي. سيطرة الدعم السريع على المثلث تُمثل خطرًا مباشرًا، خصوصًا في ظل انعدام الثقة المصرية تجاه هذه القوات.
رغم ذلك، تحاول مصر الحفاظ على علاقتها مع حفتر، إذ استثمرت سياسيًا وعسكريًا في دعمه. لذلك، اعتمدت تكتيكًا براغماتيًا: أصدرت بيانًا دبلوماسيًا يدعو لضبط النفس واحترام سيادة السودان، دون ذكر اسم حفتر، بينما اتخذت في الخفاء خطوات لاحتواء الموقف. حذر خبراء مصريون من أن تجاهل الأمر قد يتيح لحميدتي ترسيخ وجوده في المنطقة، ما يحوّلها إلى قاعدة أمامية للمليشيات ويصعب إزاحتها لاحقًا.
ارتبطت هذه التطورات بحراك دبلوماسي مكثّف. في 30 يونيو، استقبل السيسي حفتر في مدينة العلمين، مؤكدًا أن استقرار ليبيا جزء لا يتجزأ من أمن مصر القومي. ورغم أن البيان الرسمي تناول الملف الليبي فقط، رجّح مراقبون أن الأزمة السودانية كانت محور المحادثات المغلقة.
في اليوم نفسه، وصل البرهان إلى القاهرة قادمًا من إسبانيا، وعقد اجتماعًا عاجلًا مع السيسي في العلمين. شدد الرئيس المصري على دعم وحدة السودان واستعداده لتقديم المساعدة. قالت مصادر سودانية إن اللقاء ركز على "أزمة المثلث الحدودي" وآليات التنسيق المشترك بين البلدين.
تزامن وجود حفتر والبرهان في مصر لم يكن مصادفة. أشارت مصادر دبلوماسية إلى محاولة القاهرة ترتيب لقاء غير مباشر بين الطرفين لتخفيف التوتر، إلا أن حسابات أوسع منعت ذلك. رغم ذلك، وجّهت مصر رسالة واضحة: حفتر مطالب بالحذر، والبرهان يحظى بالدعم المصري.
في منتصف يونيو، أعلن حميدتي بعد سيطرة قواته على المثلث ومنطقة كرب التوم في شمال دارفور: "بعض الأطراف حاولت إفساد علاقتي بالقاهرة، لكنهم لن ينجحوا بعد الآن"، في محاولة لاستمالة مصر وإظهار رغبته في عدم التصعيد.
تكشف هذه الوقائع أن مصر تسير فوق خيط دبلوماسي مشدود. تطمئن البرهان بدعمها، تذكّر حفتر بالشراكة، وتحذر حميدتي بشكل غير مباشر. تجد القاهرة نفسها الآن في موقف حساس: توازن بين حليفين — حفتر في الغرب، والبرهان في الجنوب — وتسعى في الوقت نفسه لمنع تحوّل صراعهما إلى تهديد مباشر لها.
https://www.arabnews.com/node/2607403