سجلت أسعار الأسمنت خلال شهر مايو الجاري، مستويات قياسية، حيث تجاوز سعر الطن في بعض المناطق حاجز 4000 جنيه، مقارنة بـ 1000 جنيه فقط في عام 2013.
هذه الزيادة تمثل أكثر من 300% خلال عشر سنوات فقط، ما يعكس حجم التدهور التضخمي في السوق المحلي.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن متوسط الزيادة السنوية في أسعار الأسمنت بلغت نحو 20% خلال الفترة بين 2016 و2024.
وأثارت تلك الأرقام حالة من الاستياء في الشارع المصري، خاضةً أن تلك الأسعار لا تعكس تحسنًا في جودة المنتج أو ظروف استيراد المواد الخام، بل جاءت نتيجة غياب الرقابة واحتكار السوق من قبل عدد محدود من الشركات، بعضها له علاقات مباشرة مع مؤسسات سيادية وعسكرية، وفق ما تؤكده تقارير صادرة عن منظمات دولية كـ"هيومن رايتس ووتش" و"ميدل إيست آي".
شعبة البناء: الواقع الاقتصادي متدهور
أطلق المهندس أحمد الزيني، رئيس شعبة مواد البناء باتحاد الغرف التجارية، تصريحًا صادمًا منتصف مايو 2025، أكد فيه أن أسعار مواد البناء، وعلى رأسها الأسمنت، تشهد ارتفاعات غير مبررة وغير مسبوقة، مشيراً إلى أن السوق المصري يشهد حالة من الاحتكار وانعدام الرقابة، أدت إلى اختلال واضح في آليات العرض والطلب، مؤكدًا أن الدولة لم تتدخل لضبط الأسواق أو مواجهة تغول الشركات الكبرى.
وأوضح الزيني أن شعبة مواد البناء رفعت تقارير إلى الحكومة لتحذيرها من تداعيات هذه الطفرات السعرية، ولكنها لم تلقَ أي استجابة فعلية.
ويأتي هذا التصريح في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية في مصر، نتيجة السياسات المالية والنقدية التي انتهجها النظام منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي، الذي حول الاقتصاد المصري إلى ساحة تجريبية للقروض والجباية.
تداعيات ارتفاع الأسعار على المواطن
ارتفعت أسعار مواد البناء انعكس بشكل مباشر على أسعار العقارات والإيجارات، ما تسبب في تفاقم أزمة السكن في مصر، لا سيما بين الشباب ومحدودي الدخل.
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن أكثر من 30% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر (بحسب تقديرات عام 2023)، ومع ذلك، فإن أسعار الشقق في القاهرة الكبرى تجاوزت المليون جنيه في بعض المناطق العشوائية.
كما امتدت التداعيات إلى قطاعات أخرى مثل النقل والصناعة والزراعة، حيث أدى ارتفاع تكاليف البناء إلى تراجع الاستثمارات المحلية، وهروب المستثمرين الأجانب.
ووفق دراسة صادرة عن معهد "كارنيغي للشرق الأوسط" عام 2024، فإن السياسات الاقتصادية الحالية في مصر "لا تراعي التوازن الاجتماعي وتفتقر إلى الشفافية والمحاسبة"، وهو ما يفاقم من معاناة المواطنين يومًا بعد يوم.
لماذا ترتفع الأسعار دون داعٍ؟
العديد من الاقتصاديين يعزون هذه الزيادات إلى غياب التنافسية واحتكار السوق من قبل كيانات بعينها، أبرزها الشركات التابعة للجيش، والتي تتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية، ما يضعف قدرة القطاع الخاص على المنافسة.
حيث صرح الخبير الاقتصادي الدكتور عبد الخالق فاروق في إحدى الندوات التي أقيمت في مارس 2025، أن "الاقتصاد المصري بات رهينة للمؤسسة العسكرية التي تمارس النشاط الاقتصادي دون مساءلة، مما يؤدي إلى تشوهات كبيرة في السوق."
وأضاف فاروق أن الحكومة تتجاهل عمدًا تقارير الهيئات المستقلة، وتستمر في سياسات الإنفاق غير المنتج، مثل إنشاء القصور الرئاسية والعاصمة الإدارية، على حساب دعم السلع الأساسية أو الاستثمار في التعليم والصحة.
وهذا السلوك الحكومي، برأيه، هو السبب الجذري وراء فقدان الثقة في السوق وارتفاع الأسعار بشكل عشوائي.
وفي مقابلة متلفزة له في أبريل 2025، صرح الدكتور ممدوح الولي، نقيب الصحفيين السابق والخبير الاقتصادي، أن "غياب السياسات الاقتصادية الرشيدة منذ انقلاب 2013، أدى إلى اعتماد الدولة على القروض الخارجية لسد العجز، ما رفع حجم الدين الخارجي من 43 مليار دولار عام 2013 إلى أكثر من 165 مليار دولار في بداية 2025."
أما الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، فقد أكد في تصريح لصحيفة "الشروق" في فبراير 2025، أن "المشكلة ليست في السوق، بل في بنية اتخاذ القرار الاقتصادي، التي تغيب عنها الشفافية ويهيمن عليها منطق الأمن لا الاقتصاد."
الخبير الاقتصادي مدحت نافع، أستاذ الاقتصاد والتمويل بجامعة القاهرة، أكد أن مصر تعاني من "تضخم جامح" حقيقي يتجاوز 50%، وهو ما يفسر الارتفاع الجنوني للأسعار الذي لا تسيطر عليه الحكومة.
كما حذر عز الدين حسانين، الخبير الاقتصادي، من موجة تضخمية جديدة مع رفع أسعار الكهرباء والبنزين، مشيراً إلى أن السبب الرئيسي هو نقص الدولار وارتفاع سعره في السوق السوداء.
من جهته، وصف المحلل تيموثي كالداس إدارة النظام الاقتصادي بأنها "متهورة" مما يجعل مصر في خطر اقتصادي كبير، رغم شروط صندوق النقد الدولي التي تمنع الفشل الكامل
الأسعار وعدد المصانع
يبلغ عدد مصانع الأسمنت في مصر نحو 23 مصنعًا، منها 8 مملوكة للدولة أو الجيش بشكل مباشر أو غير مباشر.
ووفق بيانات هيئة التنمية الصناعية لعام 2024، فإن إنتاج مصر السنوي من الأسمنت يقدر بـ 80 مليون طن، بينما لا يتجاوز الاستهلاك المحلي 50 مليون طن، ما يعني وجود فائض إنتاجي بنسبة 60% تقريبًا، ومع ذلك ترتفع الأسعار بشكل مستمر.
أما أسعار الحديد، فقد تجاوز سعر الطن 50 ألف جنيه في أبريل 2025، مقارنة بـ 6 آلاف جنيه فقط عام 2014. ويؤكد المحللون أن هذه الأسعار لا تعكس زيادة في تكلفة الإنتاج، بل نتيجة تدخلات غير مبررة من جهات سيادية في السوق.
وقد أشار تقرير صدر عن منظمة الشفافية الدولية عام 2024 إلى أن "الاقتصاد المصري يشهد أعلى مستويات التداخل بين السلطة والمال في الشرق الأوسط."
خاتمة
ارتفاع أسعار مواد البناء، خاصة الأسمنت، وتداعياتها المباشرة على القدرة الشرائية للمواطنين، ليست سوى جزء من أزمة أوسع تتطلب حلولاً جذرية.
إن استمرار هذه السياسات دون إصلاحات حقيقية بعيداً عن الفوضى والفساد يعرض الاقتصاد المصري لمخاطر أكبر، ويزيد من معاناة الشعب.