أ.د. علي باكير

أستاذ الشؤون الدولية والأمن والدفاع في جامعة قطر

 

في عملية استثنائية في كل المقاييس، استطاعت المعارضة السورية الإطاحة بنظام الأسد في ديسمبر الماضي محقّقة انتصارًا مبهرًا بأقل الخسائر الممكنة مع تفادي تدمير واسع وممنهج للبلاد أو إراقة للدماء او فتنة طائفية أو عرقية. تمّ التعامل مع الأحداث بمسؤولية عالية وحكمة فريدة غالبا ما تُفتقد في العالم العربي والإسلامي، وتمّ فتح الباب أمام عمليات تسوية أوضاع لأنصار نظام الأسد، ومد اليد للمصالحة مع من لم يتورطوا بسفك الدماء، ذلك من موقف القوّة وليس الضعف.

لكن الوضع الحالي، وإن شهد تقدّمًا سريعًا على أكثر من مستوى، لاسيما من الناحية السياسية، إلاّ أنّه يواجه تحدّيات متزايدة على أكثر من صعيد، حيث تتعاظم هذه التحديات بشكل متوازٍ في آن معًا، مهدّدة بإمكانية الخروج عن السيطرة. ولعل من أبرز هذه التحدّيات، الوضع الأمني الداخلي، والعامل الإسرائيلي، وإمكانية عودّة إيران من بوّابة عدم الاستقرار، وعودة الاستقطاب الدولي حول سوريا.

خلال الأسبوع المنصرم، نصبت عصابة من فلول نظام الأسد المخلوع كمينا مسلّحًا في اللاذقية قتلت فيه 16 عنصرا من أفراد الأمن العام السوري، وذلك بالتزامن مع ازدياد التوترات الأمنيّة الملحوظة بعد إعلان الضابط السابق في جيش النظام المخلوع، غياث دلا، تأسيس ما سماه "المجلس العسكري لتحرير سوريا" الذي يضم عدد من قادة فلول عصابات النظام السابق مدعومة من إيران وأذرعها.

عودة فلول النظام لاسيما من الأقلّية العلويّة لتنفيذ الكمائن في شمال شرق سوريا ضد قوات الأمن الرسمية، غالبًا بتوظيف إيراني، ورفض ميليشيات "واي بي جي" الكردية حلّ نفسها واندماجها في الجيش الوطني السوري، ومواصلة تحدّي الحكومة السورية والسيطرة على جزء كبير من موارد البلاد الرئيسية يعدّ من التحديات الرئيسية في البلاد.

الاحتلال الإسرائيلي، وتحريض إسرائيل على الفتنة الداخلية من خلال ادعائها تبنّي بعض الأقليات في الجنوب والشمال كالدروز والأكراد يصّب في نفس الإطار ويخدم نفس الأهداف، لاسيما مع انفتاح بعض العناصر والجماعات التي تنتمي الى الأقليات المذكورة على الحصول على دعم من إسرائيل أو إيران أو أي طرف يريد أنّ يدعم، وهو امر لا يجب الاستهانة به.

وبموازاة ذلك، يفرض التحدّي الاقتصادي نفسه كأولوية على الحكومة السوريّة والسوريين جميعًا. بقاء العقوبات مع السماح ببعض الاستثناءات لا يغيّر الوضع بشكل كبير، وليس كافيًا ليعطي سوريا الدفعة الاقتصادية التي تحتاجها في هذا التوقيت لإعادة لملمة البلاد. محاولة استثمار هذه العقوبات من قبل الدول الغربية كأداة للضغط او الابتزاز وإعادة رسم مسار سوريا المستقبلي من شأنه ان يزيد الأمور تعقيدًا، وان يعيد التنافس الدولي على سوريا الى الساحة مجدّدًا مع ما يستتبع ذلك من حالة استقطاب وصراع عليها.

بعض الدول الخليجية التي كانت قد وعدت بإرسال دعم اقتصادي الى سوريا الجديد تواجه أيضا مشكلة ان يتعارض ذلك مع العقوبات المفروضة من الجانب الأمريكي. عدم وصول الدعم سيشكّل عقبة كبيرة أمام جهود استيعاب الوضع الاقتصادي والاجتماعي للسوريين. وإذا ما فشلت الحكومة من الناحية الاقتصادية، فلن ينفعها تحقيق أي تقدّم على المستوى السياسي والأمني، بل أنّ المتوقّع أنّه يؤدي التدهور الاقتصادي، إن حصل، الى تسريع وتيرة الانهيار الأمني، الأمر الذي قد يدفع الأمور للخروج عن السيطرة.

هناك جيوش من الموظفين في عدد من القطاعات الرئيسية في البلاد لن تكون قادرة على الاستمرار، وسيتسبب الوضع الاقتصادي في تململ شرائح واسعة من الشعب السوري، وهو ما سيزيد من زعزعة الوضع العام الذي لا يزال هشًّا، وقد ينعكس بالضرورة كذلك على الوضع السياسي والأمني في البلاد وسهّل للمجموعات الخارجة على القانون أو الانقلابين المحتملين إعادة ترتيب صفوفهم وكسب المزيد من الأتباع والأنصار لاسيما على خطوط الانقسام الطائفية والإثنية التي يتم الاستثمار فيها من قبل المتضرّرين من سقوط نظام الأسد في شمال بلاد وجنوبها.

مثل هذا الوضع المحتمل قد يطرح علامات استفهام على مدى قدرة العناصر الأمنيّة على ضبط الوضع في مثل هذه الحالة في عموم البلاد، وقد تستغل القوى الخارجية التدهور الاقتصادي على الأرجح لتعزّز من تواجدها ونفوذها من خلال شراء الولاء أو نشر الفرقة. هذا السيناريو يعزّز من فرص زيادة النفوذ الإسرائيلي وعودة النفوذ الإيراني –وإن بشكل تعطيلي-، وسيكون هناك لائحة طويلة من الدول المتضررة على رأسها تركيا، وذلك الدول العربية التي سيكون لديها الكثير لتخسر.

وبينما من المهم أن يتم التقدّم في سوريا على جميع المستويات التي لا يمكن فصلها عن بعضها البعض سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، من المهم كذلك إيلاء الوضع الاقتصادي والاجتماعي الأولوية في هذه المرحلة ذلك أنّه بغض النظر عن التقدّم الذي من الممكن إحرازه سياسيًا وأمنيًّا خلال هذه المرحلة، فإنّه ما لم يتم التصدّي للوضع الاقتصادي بشكل عاجل وصحيح، فإنّه سيترك تأثيره المدمّر عاجلًا أم آجلاً على باقي القطاعات والمستويات بما في ذلك المستوى السياسي والأمني في البلاد. ولذلك، فعلى الدول المستفيدة من التحوّل الذي حصل مع الإطاحة بنظام الأسد أن تدلي بدلوها، وأنّ تعزّز دورها في دعم سوريا ماليًا واقتصاديًا لتحقيق الاستقرار المطلوب للدفع بالوضع السياسي والأمني قًدمًا الى الامام.