حسام أبو حامد
صكّ إيهود باراك، وزير الخارجية في العام 1996، شعار "الفيلا في الغابة"، بما يحمله من ثقافة استعمارية استعلائية، واستراتيجيةً أمنية، وبعد 20 سنة (2016)، أكّد بنيامين نتنياهو هذه العقلية، فشدّد على أنه سيكون لدولة إسرائيل "سياج يحيط بها"، دفاعاً عن "الفيلا" ضدّ "المفترسين".
يدفع السقوط غير المتوقّع لنظام بشّار الأسد في سورية إسرائيل إلى تغييرات في استراتيجيتها الأمنية، وعدم التردّد في مراجعة عقلية "الفيلا في الغابة"، باتجاه مشاركة نشطة في الفضاء خارج الحدود، كغيرها من قوى إقليمية ودولية (تركيا وإيران مثلاً).
وقد شكلّ سقوط نظام الأسد ضربة قاسية لإيران وحزب الله، مع عديد من فوائد محتملة لمصالح إسرائيل، لكن الأخيرة تدرك أن الاكتفاء بالتلذّذ بمشاهد سوريين ينهبون سفارة إيرانية في دمشق محفوف بالمخاطر، وللإيرانيين مهارات في استغلال الفراغ السياسي الداخلي والاحتياجات الاقتصادية، وقد تؤول الأوضاع في سورية إلى تعميقهما.
سيّارات الدفع الرباعي المدنية والدرّاجات النارية، التي اعتلاها "إسلاميون متشدّدون" في "ردع العدوان"، تعلوها أسراب الطائرات المسيّرة، تذكّر الإسرائيليين بمشهد السابع من أكتوبر (2023)، الفصل المشؤوم في الذاكرة الإسرائيلية، والجارح لـ"الوجدان الإسرائيلي".
كما أن تموضع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فضاء دولة مركزية إسلامية سُنّية عند الحدود، أخطر من التحالف مع إيران الشيعية البعيدة، وقد تتحوّل ترسانة النظام أسلحةً ضدّ إسرائيل.
اكتفت إسرائيل، إلى حينه، برفع أسوار "الفيلّا"، منطقة عازلة جديدة، وتدمير قدرات هجومية للجيش السوري، ونزع سلاح المجتمعات السورية عند الحدود.
لكن السؤال إسرائيلياً: هل ينبغي التدخّل في تشكيل النظام الناشئ في سورية بدل البقاء داخل "الفيلّا"؟
قد تسعى إسرائيل بتوغلها في سورية إلى تحقيق مزايا عملياتية للتفاوض على إجراءات "أمنية محسّنة"، لكنّ طول أمد هذا الوجود سيثير العمل ضدّه (من قوات محلية تحاول تحرير الأرض، أو لاعبين دوليين يمارسون مزيداً من الضغوط السياسية، أو كليهما)، والقيادة في دمشق ليست مستعدّةً لتقديم تنازلات تنزع منها شرعية التحرير.
تدرك إسرائيل أنها مطالبة بنهج أكثر استباقية، وتفضل سيناريو التقسيم في سورية، وتتحضر لمنافسة إقليمية ودولية، تميّز نفسها خلالها لاعباً مهماً. وتحت شعار "حماية الأقليات"، تسعى إلى التوغّل في المجتمعين الدرزي في الجنوب والكردي في الشمال الشرقي، ما يعني خروجها من "الفيلا" نحو "الغابة". القرب من الحدود والتداخل الديمغرافي يجعلان من دروز سورية أولوية.
كرّرت إسرائيلُ تحذيرها الإدارةَ السورية من إيذاء دروز سورية، وتظن أنها للتوغل في مجتمعهم ليس عليها أن تبدأ من الصفر، فالروابط مع المجتمع الدرزي داخل دولة الاحتلال قوية، وقد تردد أن تنظيم رجال الكرامة تلقّى تمويلاً من مجتمعهم هناك لشراء أسلحة في أثناء الصراع مع الجهاديين في السويداء، وقد تستأنف إسرائيل تقديم مساعدات "إنسانية" مستوحاة من مبادرة "حسن الجوار" (2012)، التي انتهت بعد استعادة النظام السوري السيطرة في الجنوب (2018)، وأعلنت إسرائيل برنامجاً تجريبياً يسمح لدروز السوريين بالعمل في الجولان المحتل.
تبرّأت المرجعيات الدرزية في سورية من بيان أعيان من قرية حضر يدعو إلى الاندماج في دولة الاحتلال، أمّا إعلان "المجلس العسكري" في السويداء، الذي تزامن مع مطالبة نتنياهو بإخلاء الجنوب من قوات سلطة دمشق، فقوبل بانتقادات درزية شديدة. محاولات إسرائيل هذه تصطدم بقضية الوحدة السياسية التي تشكّل أهمّيةً قصوى في سورية، لكن المسار يبدو معقداً أمام المجتمع الدرزي الذي يسعى للحفاظ على استقلاليته حذراً من صدمات الماضي.
فرغم خطاب وطني يشدّد على الوحدة، فإن المخاوف عميقة، فلا يزال في الذاكرة ما خلّفته الاشتباكات مع جبهة النصرة (سلف هيئة تحرير الشام) من صدمةٍ جماعيةٍ عميقة، وعانى جزء من دروز سورية تحت حكم "الهيئة" في إدلب، خاصّة في جبل السُّمَّاق، منذ 2014.
صحيح أن مليشيات درزية رئيسة أعلنت استعدادها للاندماج في جيش موحّد، لكن لا يبدو أن دروز سورية تخلّوا نهائياً عن مطلب اللامركزية، فالثقة في العملية الجارية في دمشق عموماً لا تزال هشّة، وتشكّل جرمانا حالياً بوتقة اختبار للسلم الأهلي المستدام.