بالضبط .. ما يجري في الآونة الأخيرة من مقارنات في التعامل مع الثورات علي أنظمة الحكم الدكتاتورية بين المنهج السلمي ( سلميتنا أقوى من الرصاص ) الذي أعلنته جماعة "الإخوان المسلمون " عند الانقلاب العسكري في مصر ( 2013م ) على حكم الرئيس الشهيد محمد مرسي، والمنهج العسكري الحاسم الذي أسقطت به الثورة السورية نظام حكم بشار الأسد مؤخرا.
وقد تطوع البعض عند تناول هذا الموضوع بالسخرية حينا وبالتطاول حينا آخر علي منهج الإخوان جماعة وكلمات مرشدهم العام، مؤكدا – هذا البعض - علي حتمية المنهج العسكري في إزالة الأنظمة المجرمة.
هذا اللغط الدائر اليوم ، دار شبيه له عندما قامت الثورة الإيرانية ( 7يناير1978م – 11فبراير 1979م ) . وقد ناقشت المفكر الإسلامي الكبير الدكتور فتحي يكن -يرحمه الله- في هذا الموضوع عام 2000م في حوار مطول عن قصة تأسيس وانطلاق "الجماعة الإسلامية " في لبنان بصفته مؤسسها ، وبالمناسبة فمادة هذا الحوار موجودة في كتاب تحت الطبع .
وأكتفي هنا بنقل نص كلام فضيلته يرحمه الله ، قائلا :حينها اهتزت الساحة الإسلامية بشكل كبير، حتى أصبحت هناك علامة استفهام على الحركات الإسلامية ومنها حركة الإخوان، وقيل وقتها: انظروا هذا النهج الجديد في العمل، وكيف يطيح بـ«الشاه» بين عشية وضحاها، وتقدم العلماء إلى مواقع القرار؟ بينما حركة الإخوان رغم تواجدها على الساحة منذ سنوات طويلة لم تستطع أن تصل إلى موقع قرار.
لقد حدثت اهتزازات كبيرة، وحدثت بالفعل اختراقات للساحة الإسلامية في لبنان، ولم نكن يومها مسؤولين أو معنيين بالمحافظة على منهجية «البنا»؛ لأن هناك مَنْ هم أَوْلى، وهي مؤسسات الحركة في مصر.
لكننا قمنا بتشكيل لجنة لوضع ثوابت منهجية الإمام «البنا» - يرحمه الله - وأكدنا يومها ضرورة العودة إلى هذه الثوابت، وبالفعل أصدرنا كتاباً حول هذا الموضوع عنوانه: «ثوابت منهجية الإمام حسن البنا»، تأليف الأستاذ «مازن فاروق»، وكان لهذا الكتاب وهذه الثوابت التي صدرت في تلك الفترة العصيبة الأثر الكبير في إعادة التوازن وإعادة الكثيرين إلى صوابهم فيما يتعلق بفترة الاهتزاز هذه.
وباعتقادي، فإن الكثير من الحركات الإسلامية التي تنتمي بشكل أو بآخر إلى حركة الإخوان المسلمين، ابتعدت قليلاً أو كثيراً عن منهجية الإمام الشهيد «حسن البنا»، ولقد أشرت أنا إلى ذلك في كتابي: «نحو صحوة إسلامية في مستوى العصر»، تحت عنوان «قراءة جديدة في منهجية الإمام البنا»، فمثلاً الذين يطرحون اليوم فكرة «الجماهيرية»، والخروج من الحالة «الاصطفائية»، تجيبهم منهجية «البنا» بأنه لم يكن فقط ضمن الإطار الجماهيري، فقد كان اصطفائياً ومنهجيته اصطفائية فيما يتعلق بتربية الكوادر الذين يحملون أعباء العمل الإسلامي، وكانت منهجيته كذلك جماهيرية حيث كان ينتقل بدعوته من مكان إلى مكان، حتى أنه خرج عن الإطار التقليدي في الدعوة عبر المساجد وفي الدائرة الإسلامية المحدودة إلى المقاهي والمنتديات وهكذا.
فباعتقادي أن منهجية «البنا» تغطي اليوم المساحة الأكبر في مساحات العمل الإسلامي، ونحن بحاجة للعودة إلى هذه المنهجية التي اختصرها في القليل مما كتب، والكثير من المعاني في هذا القليل، صحيح أن الأدبيات كانت قليلة لكن المعاني كانت غزيرة جداً.
هناك مَنْ قال: إن التفكير في إقامة الفرد المسلم والأسرة والمجتمع المسلم التي تحددها منهجية الإمام «البنا» ،هذه ينبغي أن نتجاوزها، ونفكر في الانقلابات العسكرية مثلما انقلب «الخميني» على «الشاه»، وكما حرّض الجيش في إيران والمؤسسة العسكرية على هذا الانقلاب، فكانوا يقارنون بين وضع ووضع، وبالفعل لا تجوز المقارنة هنا لأسباب كثيرة، ومنها الفوارق التي لدى أهل «السُّنة والجماعة» و«الشيعة» فيما يتعلق بعلمائهم، فمثلاً علماء الشيعة ،الأساس عندهم «ولاية الفقيه»، بمعنى أن «الفقيه» له ولاية عليهم، والقرار عنده كأنه يصدر من موقع القرار الأعلى، كأنه رئيس دولة أو ما شابه ذلك.
وبالطبع فإن ذلك في إطارنا غير موجود بالأساس، عدا عن ذلك فإن البنية الإيرانية في عهد «الشاه» وصلت إلى درجة من الاحتراق، وكان لابد أن يحدث شيء، ولقد حدث هذا الشيء، ولكنه لم يحدث فجأة ،بين عشية وضحاها كما قد يظن بعضهم ، فمدرسة الإمام «الخميني» استغرقت فترة طويلة من الزمن، دخل خلالها السجون وتغرّب ونُفي عشرات السنين وهو يعد العدة لهذا الانقلاب.
قد يظن بعضهم أن الانقلاب بدأ بصيحة من فرنسا بلاد المنفى لـ«الخميني»؛ فاهتز كل شيء وسقط عصر «الشاه»، وهذا غير صحيح، فالقضية مرت بمراحل طويلة، وبعضهم قال: إنه لا علينا أن نبقى أسيري مراحل معينة، وانظروا لما حدث بين عشية وضحاها، وانتهى الأمر، هؤلاء لا ينظرون أبعد من أنوفهم، ولا يعرفون تفصيلات ما حدث والتحضيرات والتغييرات التي حدثت، حتى أن المدرسة «الخمينية» كانت قائمة خلال حكم «الشاه» بسرية مفرطة عبر العلماء والحوزات الدينية، وكانت تعد العدة لمثل هذه الساعة، فلم تأتِ ساعة الصفر من فراغ وبشكل مفاجئ.
لقد توقفنا نحن عند هذه «القضية» عبر الثوابت، بأنه لابد من المرحلية، ولابد من الإعداد، ولا يمكن أن يكون الانقلاب الإسلامي انقلاباً من فراغ في الهواء، أو مغامرة طائشة من المغامرات، فانقلاب «الخميني» لم يكن مغامرة طائشة، وإنما كان مدروساً تماماً، حتى في إطار البنية العسكرية التي قادها بعض الجنرالات والقادة العسكريين ، حتى ساعة الصفر كانت محددة عندما ركب الخميني الطائرة ونزل في طهران.
إذن .. تمت معالجة الاهتزازات التي حدثت داخل الحركة الإسلامية بعد ثورة الخميني ؟
نعم وتمت إعادة الأمور إلى وزنها الطبيعي فيما يتعلق بالمقارنة بين منهجية الإمام «البنا» ومنهجية الإمام «الخميني».
هل كانت معالجتكم للاهتزازات التي حصلت بعد «الثورة الخمينية» خاصة بكم في لبنان، أم بالعمل الإسلامي ككل؟
لا شك أنها لم تكن خاصة بنا في لبنان، وإنما جرى تعميم هذه المعالجة في كتيب خاص تم توزيعه خارج القطر اللبناني في مختلف الأقطار؛ حيث أرسلنا كميات من هذا الكتيب، بالإضافة إلى طرحنا للموضوع مشافهة، وعبر لقاءات كثيرة مع كوادر الحركة الإسلامية في كل مكان؛ لأن الاهتزاز حصل في كل مكان في أعقاب الثورة الإيرانية.
وبعد ..
انتهى كلام الدكتور فتحي يكن -يرحمه الله- وما ذكره عن الثورة الإيرانية شبيه بالثورة السورية وإسقاط حكم بشار.
فقوله: إن البنية الإيرانية في عهد «الشاه» وصلت إلى درجة من الاحتراق، وكان لابد أن يحدث شيء، ولقد حدث هذا الشيء، ولكنه لم يحدث فجأة ،بين عشية وضحاها كما قد يظن بعضهم .
وهو هو نفس المشهد في سورية الذي حدث في سورية قبل سقوط بشار ، فقد وصل الوضع بعد ستين سنة من دكتاتورية البعث ونصف قرن من دكتاتورية وإجرام آل الأسد ، وصل إلى درجة الاحتراق وكان لابد ان يحدث ما حدث.
ثم إشارته إلى أن ما حدث لم يكن بين عشية وضحاها ووصفه لمن يفكرون بهذا الشكل بأنهم لا ينظرون أبعد من أنوفهم.
نفس الشيئ حدث في سورية فأحمد الشرع ( الجولاني ) لم يظهر فجأة وثورة سورية مرت بمراحل متعددة سبقتها أحداث ونقاشات وسبقها نموذج إدارة إدلب وأحيطت بدعم إقليمي كبير .