إذا تتبعنا الآيات التي ذُكِر فيها موسى وهارون – عليهما السلام – في دعوتهما لفرعون وقومه نجد شدة التلازم والتصاحب والاقتران بينهما، وإذا ذُكِرّ أحدهما دلَّ على الآخر، وفي طريقهما لدعوة فرعون وقومه برزت معالم يحْسُن بالدعاة إلى الله معرفتها والعمل بها :
المَعْلَمْ الأول : إعداد النفس وتزكيتها قبل الانطلاق في الدعوة إلى الله :
فالإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة أول خطوة في طريق الدعوة، وهي التزود بالذكر الكثير والتسبيح الكثير، وهما العبادتان اللتان وصفتا بالكثير في القرآن.
وقد بوب البخاري باباً بعنوان :" بَاب عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ الْقِتَالِ" ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ([1]).
ومن وسائل الإعداد الإلهية :
التعاون على التسبيح الكثير والذكر الكثير :
قال تعالى على لسان موسى مُعللاً طلباته : { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً . وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } ([2]). فبين-عليه السلام ـ أن طَلَبَه مُشاركةَ أخيه له بحقِّ ربه لا بحظِّ نَفْسِه . "وعلم -عليه السلام- أن مدار العبادات كلها والدين على ذكر الله فسأل الله أن يجعل أخاه معه يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى؛ فيكثر منهما ذكر الله من التسبيح والتهليل وغيره من أنواع العبادات"([3]) .
" والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد، وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به، وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء "([4]).
وأمرهما الله ـ سبحانه ـ ألا يفترا، ولا يكسلا عن مداومة ذكره بل يستمرَّا عليه، ويلزماه ، فإن ذكر الله فيه معونة على جميع الأمور، يسهلها، ويخفف حملها،كما قال تعالى :} وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي {([5]).
فالأمر الجليل الذي هو مقدمان عليه يحتاج إلى التسبيح الكثير والذكر الكثير.
فإن فَتُرَ الداعية عن ذكر الله، قصَّرَ ، ولم يستطع الدعوة، والمتابعة والمواجهة والمجابهة على ما يقتضيه أمر الله سبحانه وتعالى.
ذكر الله في طريق الدعوة إلى الله يؤدي وظائف شتى :
منها : أنه الاتصال بالقوة التي لا تُغْلَب؛ والثقة بالله الذي ينصر أولياءه.
ومنها : استحضار حقيقة الدعوة إلى الله وبواعثها وأهدافها، فهي دعوة لله؛ لتقرير ألوهيته في الأرض، وتحرير الناس من استبداد المستبدين المغتصبين لهذه الألوهية .
ومنها : استحضار أنها : دعوة لتكون كلمة الله هي العليا؛ لا للسيطرة ، ولا للمغنم ، ولا للاستعلاء الشخصي أو الحزبي .
ومنها : اطمئنان القلوب كما قال تعالى : }أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{ ([6]).
ومنها : تحقق الفلاح كما قال تعالى: } وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ { ([7]).
التعبئة الروحية والنظامية:
قال تعالى : }وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ { ([8]). أي : اتَّخِذُوا لِقَوْمِكُمَا بُيُوتًا فِي مِصْرَ تَكُونُ مَسَاكِنَ وَمَلَاجِئَ يَبُوءُونَ إِلَيْهَا وَيَعْتَصِمُونَ بِهَا . (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أَيْ مُتَقَابِلَةً فِي وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الِاتِّجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - r- فِي حِكْمَةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ (وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ) ([9]) ، وَحِكْمَةُ هَذَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَبْلِيغِهِمَا إِيَّاهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ مِمَّا بُعِثَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ"([10]) .
وقال سيد قطب:" وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية . وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات ، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات . وقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية ، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل ، فهي تجربة إيمانية خالصة . وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي ، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم الله اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها؛ لتطهرها وتزكيها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها "([11]).
وقد اتخذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من دار الأرقم بن أبي الأرقم مكاناً لتربية أصحابه ، وتطهيرهم وتزكيتهم وتنظيمهم حتى كانوا اللبنة الصالحة في تكوين وتمكين الأمة الإسلامية .
وهنا تساؤل: لماذا خَصَّ اللهُ مُوسَى بالتَّبْشِيرِ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي اتخاذ مساكن لقومهما بمصر للاعتصام بها، وأسند اجعلوا إلى ضمير الجماعة؟
الجواب : خَصَّ اللهُ مُوسَى بالتَّبْشِيرِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ الْمَنُوطِ بِهِ ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ عَمَلِيٌّ هُوَ وَزِيرُهُ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ" ([12])، ولِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الرَّاجِعَةِ إِلَى تَدْبِيرِ أَمْرِ الْأُمَّةِ، فَيُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهَا بَيْنَ الرَّسُول ومؤازره([13]) ،وَأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إِلَى ضَمِيرِ؛ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ مِنْ عَمَلِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَقَوْمِهِمَا إِذْ كُلُّ أَحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً([14]).
المَعْلَمْ الثاني : التعاون في القيام بواجب الدعوة إلى الله :
التعاون في حمل الرسالة إلى فرعون وقومه :
قال تعالى :} ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ{ ([15]).
" أرسلنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون وأشراف قومه من القبط بحججنا( فَاسْتَكْبَرُوا ) عن اتباعها، والإيمان بما جاءهم به من عند الله، وكانوا قوماً عالين على أهل ناحيتهم ، ومن في بلادهم من بني إسرائيل وغيرهم بالظلم، قاهرين لهم"([16]).
التعاون في الذهاب لدعوة فرعون وقومه :
أمر الله U موسى وهارون – عليهما السلام - أن يذهبا إلى فرعون وقومه الذين كذَّبوا بدلائل الربوبية والألوهية, فذهبا إليهم، فدَعَواهم إلى الإيمان بالله وطاعته وعدم الإشراك به، فكذَّبوهما، فأهلكهم الله U إهلاكًا عظيمًا، وفي ذلك تسليةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم- فيما كان يقاسيه من قومه من فنون البلاء ، ووَعْدٌ له بالجميل في أنه سَيُهْلك أعداءَه كُلَّهم .
كما قال تعالى :} اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى { ([17]) ، وقال تعالى : } فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً{ ([18]).
وقال تعالى : } قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ{([19]).
وقوله تعالى لموسى : } اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{ ([20])، لا ينافى هذا، لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور.
وهنا تساؤل : لماذا خُصَّ موسى بالخطاب في بعض المواطن ؟
قال الشوكاني –رحمه الله - :" إن تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن؛ لكونه الأصل في الرسالة ، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مُرْسَلين جميعاً"([21]).
التعاون في تبليغ دعوتهما إلى فرعون وقومه :
قال تعالى } فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى{ ([22]). وقال تعالى } فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ ([23]).
وهنا تساؤل : لماذا لم يثن الرسول في قوله تعالى : } فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ ، كما ثنى في قوله }إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ{ ؟
قال النسفي : " لأن الرسول يكون بمعنى المُرْسَل وبمعنى الرسالة فجعل ثمة بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته ، وجعل هنا بمعنى الرسالة فيستوي في الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، أو لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد، أو أريد إن كل واحد منا"([24]).
وقال سيد قطب " هما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة"([25]) .
التعاون في أسلوب الدعوة :
أمر الله موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لطيفًا لعله يتذكر أو يخاف ربه كما قال تعالى } فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى{ ([26]).
قال ابن كثير :" هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا) : يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟([27]).
وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ هذه الآية: (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) فبكى يحيى، وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله ؟! ([28]) .
والقول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه. فإذا كان موسى أُمِرَ بأن يقول لفرعون قولا لينا، فمَن دونه أحرى بأن يقتدى بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه([29]).
كم قال سبحانه وتعالى :} وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً{ ([30]).
تدل هذه الآية على أن الذين يخاشنون الناس ويبالغون في التعصب، كأنهم على ضد ما أمر الله به أنبياءه ورسله .
"فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم؛ ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة. ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان .
اذهبا إليه غير يائسين من هدايته ، راجيين أن يتذكر ويخشى . فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار، وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون . ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه([31]) .
وهنا تساؤل : ماذا لو لَمْ يَنْفَعِ اللِّينُ مَعَ الْمَدْعُوِّ وَأَعْرَضَ وَاسْتَكْبَرَ؟
قال ابن عاشور :" جَازَ للداعي فِي مَوْعِظَتِهِ الْإِغْلَاظُ مَعَهُ، قَالَ تَعَالَى: } وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ { ([32]) ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى: }إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى{([33]).
وأسلوب اللين ينجع في ابتداء الدعوة وإقامة الحجة ، أما إذا أعرض المدعو واستكبر فيستخدم معه الإغلاظ كما قال موسى لفرعون }وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً {([34]).قال مجاهد:" أي: هالكًا"([35]).
محتوى رسالة موسى وهارون –عليهما السلام - إلى فرعون وقومه :
قال تعالى : }فَأْتِياهُ فَقُولا: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ. فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ{.
ابتدءا خِطَابهمَا لفِرْعَوْنَ :" بِأَنْ وَصَفَا اللَّهَ بِصِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُجَابَهَةٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ. وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعَالَمِينَ شَامِلٌ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ فَيَشْمَلُ مَعْبُودَاتِ الْقِبْطِ كَالشَّمْسِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ يَوْمَئِذٍ.
وأَرْسِلْ مَعَنا : يَتَضَمَّنُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بِلَادِ الْفَرَاعِنَةِ لِقَصْدِ تَحْرِيرِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ"([36]).فقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد([37]).
المَعْلَمْ الثالث : الصبر على الابتلاء في مقام الدعوة إلى الله :
إن طريق الدعوة إلى الله شاق، محفوف بالمكاره ، والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين : من التكذيب والإعراض اللذين تقابل بهما الدعوة ، والحرب والأذى اللذين يُعْلَنَان على الدعاة كما قال تعالى : }وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ{([38]) .
ومما تعرَّض له موسى وهارون من ابتلاء :
اتهام موسى وهارون بالسحر :
اتهم سحرة فرعون موسى وهارون بالسحر كما قال تعالى : } قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى { ([39]).
وقال مجاهد في قوله تعالى : } أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا{([40]). يعني موسى وهارون عليهما السلام (تَظَاهَرَا) أي: تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر. وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رَزِين "([41]) قال ابن كثير وهذا قول جيد قَويّ.
الاعتراض على بشريتهما والتكذيب بهما :
كذَّبَ فرعون وقومه موسى وهارون واستكبروا عن اتباعهما، والانقياد لأمرهما، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر، تشابهت قلوبهم، فأهلك الله فرعون وملأه كما حكى عنهم القرآن قال تعالى : } فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ. فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ{([42])." فكذّب فرعون وملؤه موسى وهارون، فكانوا ممن أهلَكَهم الله كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبها رسلها([43]).
وفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ قُرَيْشٍ- ومن سار على طريقتهم- عَلَى تكذيبهم رسولهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِهْلَاكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ يكذبُون رسله([44]).
الخوف من إيذاء فرعون وتمرده على الحق :
فموسى وهارون خافا أن يعاجلهم فرعون بالعقوبة ، أو أن يتمرد على الحق فلا يقبله فقالا مستجيرين بالله تعالى شاكيَيْن إليه }قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى{ ، فقال تعالى : } قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى { ([45]).قال ابن عباس رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما([46])، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه، لا يخفى عليّ من أمركم شيء، واعلما أن ناصيته بيدي، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي" ([47]).
فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى؟
المَعْلَمْ الرابع : المشاركة في اجتناء ثمار الدعوة :
البشارة بالغلبة بالحجة والبرهان :
قال تعالى : } قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ {([48]). فالآية : "تبشير لهما ، وتقوية لقلوبهما"([49]) ، بالغلبة بالحجة والبرهان. " وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل، حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه، الغلبة والظهور([50]).
إيمان السحرة بدعوتهما :
قال تعالى: } فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى {([51]).
وقال على لسان السحرة } رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ { ([52])،وقالوا }رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {([53]) .
وهنا تساؤل : لماذا قدموا في الآية الأولى هارون على موسى ؟
قال الرازي :" إن فرعون ادعى الربوبية في قوله : ( أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى)([54]) ،والإلهية في قوله : (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي)([55]) ، فلو أنهم قالوا : آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة ، والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى ؛ لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله :( أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً)([56])، فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال([57]) .
وقال ابن عاشور : صَدَرَ مِنْهُمْ قَوْلَانِ، قَدَّمُوا فِي أَحَدِهِمَا اسْمَ هَارُونَ اعْتِبَارًا بِكِبَرِ سِنِّهِ، وَقَدَّمُوا اسْمَ مُوسَى فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ اعْتِبَارًا بِفَضْلِهِ عَلَى هَارُونَ بِالرِّسَالَةِ وَكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاخْتِلَافُ الْعِبَارَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ"([58]).
إهلاك فرعون والملأ الذين معه استجابة لدعاء موسى وهارون :
قال تعالى : } وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ { ([59]).
"قال ابن كثير :" هذه الدعوة كانت من موسى، عليه السلام، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه، الذين تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح، عليه السلام، فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) ([60])؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى، عليه السلام، فيهم هذه الدعوة، التي أمَّنَ عليها أخوه هارون، فقال تعالى: ( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) ، قال عكرمة وغيره : دعا موسى وأمَّنَ هارون، أي: قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون([61]).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: كان موسى بن عمرانـ عليه السلام ـ إذا دعا أَمَّنَ هارون ـ عليه السلام ـ على دعائه([62]).
قال القرطبي :" قد استشكل بعض الناس هذه الآية فقال: كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؟
فالجواب: أنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن من الله، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن، دليله قوله لنوح عليه السلام:" أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ " ([63])، وعند ذلك قال: " رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً "([64]).
المَعْلَمْ الخامس : التعاون في الجهاد بعد نكول بني إسرائيل عن الجهاد :
قال تعالى :} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ .قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{([65]).
لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام، وقال داعيا عليهم: ( رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي ) أي: ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون، ( فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قال ابن عباس: يعني اقض بيني وبينهم([66]).
وقال سيد قطب :" دعوة فيها الألم . وفيها الالتجاء . وفيها الاستسلام . وفيها - بعد ذلك - المفاصلة والحسم والتصميم!
وإنه ليعلم أن ربه يعلم أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه . . ولكن موسى في ضعف الإنسان المخذول . وفي إيمان النبي الكليم . وفي عزم المؤمن المستقيم ، لا يجد متوجهاً إلا لله . يشكو له بثه ونجواه ، ويطلب إليه الفرقة الفاصلة بينه وبين القوم الفاسقين . فما يربطه بهم شيء بعد النكول عن ميثاق الله الوثيق . . ما يربطه بهم نسب . وما يربطه بهم تاريخ . وما يربطه بهم جهد سابق . إنما تربطه بهم هذه الدعوة إلى الله ، وهذا الميثاق مع الله .
وقد فصلوه . فانبت ما بينه وبينهم إلى الأعماق . وما عاد يربطه بهم رباط . . إنه مستقيم على عهد الله وهم فاسقون . . إنه مستمسك بميثاق الله وهم ناكصون . .
هذا هو أدب النبي . وهذه هي خطة المؤمن . وهذه هي الآصرة التي يجتمع عليها أو يتفرق المؤمنون . . لا جنس . لا نسب . لا قوم . لا لغة . لا تاريخ . لا وشيجة من كل وشائج الأرض؛ إذا انقطعت وشيجة العقيدة؛ وإذا اختلف المنهج والطريق([67]) .
فعند تخلي الاتباع عن الدعاة والمصلحين ينبغي عليهم أن يسيروا على ما عاهدوا الله عليه من نصرة الدين ، ولوا انفردوا كما قال تعالى }لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ{([68]) قال القرطبي-رحمه الله - : ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ ([69])سَالِفَتِي ([70]).وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي([71]).
عقاب بني إسرائيل :
( قَالَ) الله مجيبا لدعوة موسى: }فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ{([72])أي: إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه القرية التي كتبها الله لهم، مدة أربعين سنة، وتلك المدة أيضا يتيهون في الأرض، لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مطمئنين، وهذه عقوبة دنيوية، لعل الله تعالى كفر بها عنهم، ودفع عنهم عقوبة أعظم منها، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة، أو دفع نقمة قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة.
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصاً قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: } فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ{ أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا([73]).
وفي حكمة عقاب بني إسرائيل يقول الشيخ رشيد رضا :
إِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي تَنْشَأُ فِي مَهْدِ الِاسْتِبْدَادِ ، وَتُسَاسُ بِالظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا ، وَتَذِلُّ نُفُوسُهَا ، وَيَذْهَبُ بِأْسُهَا ، وَتُضْرَبُ عَلَيْهَا الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، وَتَأْلَفُ الْخُضُوعَ ، وَتَأْنَسُ بِالْمَهَانَةِ وَالْخُنُوعِ ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا أَمَدُ الظُّلْمِ تَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مَوْرُوثَةً وَمُكْتَسَبَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ ، وَالطَّبَائِعِ الْخِلْقِيَّةِ . إِذَا أَخْرَجْتَ صَاحِبَهَا مِنْ بِيئَتِهَا وَرَفَعْتَ عَنْ رَقَبَتِهِ نِيرَهَا ، أَلْفَيْتَهُ يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا ، وَيَتَفَلَّتُ مِنْكَ لِيَتَقَحَّمَ فِيهَا ، وَهَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ مَا يَأْلَفُونَهُ ، وَيَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ.
أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ."([74]).
وعي الصحابة لدرس نكول بني إسرائيل عن الجهاد :
قال ابن القيم –رحمه الله -:" لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُرُوجُ قُرَيْشٍ ، اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فَتَكَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا ، ثُمّ اسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا ، فَتَكَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا ، ثُمّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا ، فعلم الْأَنْصَارُ أَنّهُ يَعْنِيهِمْ فَبَادَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّك تُعَرّضُ بِنَا ؟ وَكَانَ إنّمَا يَعْنِيهِمْ لِأَنّهُمْ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فِي دِيَارِهِمْ فَلَمّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ اسْتَشَارَهُمْ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ لَعَلّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى حَقّا عَلَيْهَا أَنْ لَا يَنْصُرُوك إلّا فِي دِيَارِهَا ، وَإِنّي أَقُولُ عَنْ الْأَنْصَارِ ، وَأُجِيبُ عَنْهُمْ فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ وَمَا أَخَذْتَ مِنّا كَانَ أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا تَرَكْتَ وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ فَوَاَللّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غِمْدَانَ ، لَنَسِيرَنّ مَعَكَ وَوَاللّهِ لَئِنْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ([75]) .
ثم قام المقداد بن عمر وقال ما رواه لنا البخاري عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ :شَهِدْتُ مِنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ يَعْنِي قَوْلَهُ([76]).
وهكذا يجب أن يكون المعينون في طريق الدعوة ، كمال الطاعة مع سرعة الاستجابة .