قال تعالى: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23). من هذه المعاني نبغت شخصيات فذة تجسدت في مسيرة المجاهدين الذين استشعروا قيمة الحياة الحقيقية، ووقفوا في وجه الظلم والطغيان، ومن بينهم الشيخ مصطفى حسني السباعي، الذي كانت حياته تجسيداً للإخلاص والتفاني في سبيل الله.

وُلِد مصطفى السباعي في عام 1915 في مدينة حمص بسوريا، في أسرة علمية عريقة عرفت عبر الأجيال بالخطباء والعلماء. منذ صغره، تفتحت عينيه على القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، فقد حفظ القرآن قبل أن يلتحق بالمدرسة، وانطلق في مسيرته التعليمية ليحقق التفوق الأكاديمي في وقتٍ مبكر.

مقاومة الاحتلال الفرنسي
في سن السادسة عشرة، انطلق السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، حيث كان له دور بارز في توزيع المنشورات وقيادة المظاهرات، مما أدى إلى اعتقاله مرتين من قبل القوات الفرنسية بسبب نشاطاته السياسية. ورغم كل هذه المعاناة، لم يتراجع عن طريق الجهاد والدعوة إلى الحق.

في عام 1933، انتقل إلى مصر ليدرس في الأزهر الشريف، حيث حصل على درجة الدكتوراه عام 1949. خلال فترة دراسته، تفاعل السباعي مع الحراك الوطني العربي، مُشارِكًا في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني في العراق، واعتقل مرةً أخرى بسبب تلك الأنشطة.

انضمامه إلى الإخوان المسلمين
بعد عودته إلى سوريا، تواصل السباعي مع الإمام الشهيد حسن البنا، وأصبح جزءاً من حركة الإخوان المسلمين. في عام 1942، تم تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، واختير السباعي ليكون أول مراقب عام للجماعة. كانت رؤية السباعي تتجاوز الجانب الديني، حيث دعا إلى الإصلاح السياسي وإزالة آثار الاستعمار، مما جعله شخصية محورية في الساحة السياسية السورية.

أطلق السباعي العديد من المبادرات الاجتماعية والتعليمية، مثل إنشاء المدارس والمعاهد، وكان القائد العام لمؤسسات الفتوّة التي عُنيت بتربية الشباب على الجهاد والدفاع عن الأمة. وقد ساهمت تلك الجهود في تعزيز مكانة الإخوان في المجتمع السوري وتأسيس قاعدة جماهيرية واسعة.

دور السباعي في الدفاع عن فلسطين
أثناء النكبة عام 1948، قاد مصطفى السباعي جهود الإخوان المسلمين في دعم القضية الفلسطينية. شكّل كتيبة لمساعدة المجاهدين الفلسطينيين، وكانت له مشاركات فعالة في معارك القدس. أبدع السباعي في تأمين الاحتياجات للمجاهدين، وتنسيق العمليات العسكرية، مستنكرًا الهزائم التي مني بها الجيش العربي بسبب عدم استعداد الحكومات العربية.

قال السباعي عن تلك الفترة: "كنا نشعر ونحن في قلب معارك القدس أن هناك مناورات تجري في الصعيد الدولي، وأن جيش الإنقاذ لم يكن إلا تسكينًا لشعور العرب". انتقد السباعي بشدة تخاذل القادة العسكريين وغياب الخطط المدروسة، مؤكدًا أن المقاومة الحقيقية كانت من قبل المجاهدين العاديين وليس من الجيوش النظامية.

إرثه وتأثيره
لم يكن السباعي مجرد مجاهد في ساحات المعارك، بل كان عالماً ومفكراً يطرح رؤى جديدة في الفكر الإسلامي، حيث ساهمت كتاباته وأفكاره في تنمية الوعي الإسلامي والسياسي لدى الأجيال اللاحقة. أسس جريدة "المنار" لتكون صوتاً معبراً عن القضايا الإسلامية، ورغم إغلاقها بعد الانقلاب العسكري في عام 1949، استمر السباعي في العمل والدعوة.

توفي السباعي في عام 1964، لكن إرثه بقي حاضراً في نفوس المؤمنين، فهو نموذج للمؤمن الصادق الذي عرف قيمة حياته وأخلص في الجهاد من أجل دينه وأمته. لم يتوانَ عن تقديم حياته في سبيل الله، حيث تُعد سيرته مصدر إلهام للمسلمين في جميع أنحاء العالم، ليواصلوا الجهاد من أجل الحق والعدالة.

يتجلى دور مصطفى السباعي في مقاومة الظلم والطغيان، ليكون مثالاً يحتذى به في الصبر والإصرار على الحق. ويُعدُّ قامةً شامخة في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث عاش من أجل هدفٍ سامٍ وهو نصرة دين الله، ليبقى ذكره خالداً في قلوب الأحرار والمجاهدين.