أجواء ترابية عاصفة كتلك الوجوه التي تراصت في صفوف ممتدة في المكان و الزمان لم يكسر رتابتها سوى صوت أم مريم التي تنادي على ملاعقها في مرح كأنها تتنزه في إحدى حدائق القاهرة وليست أمام مدخل منطقة سجون طرة المؤدي إلى سجن العقرب سيء السمعة.
في تلك المنطقة القاحلة ، تلتف النسوة القابعات أمام البوابة الرئيسية منذ مطلع الفجر حول أم مريم ليشترين لذويهم مستلزمات الزيارة من ملاعق بلاستيكية، بدلا من مثيلاتها المعدنية التي ترفض إدارة السجن دخولها ، لكنها ليست رائجة بالخارج لذلك لم يتوقعن وجودها هنا.
بحقيبتها الكبيرة، وقفت السيدة العشرينية تفاوض النسوة على السعر الذي حددته مسبقا، رافضة أن تأخذ من أي منهن سوى ستة جنيهات لكل أربعة ملاعق لكي تحقق هامش ربح يكفي حاجة بناتها الثلاثة وزوجها المعتقل منذ سنتين.
أم البنات أضفت على ساعات الانتظار الطويلة أجواءا مرحة ممزوجة بضحكاتها وهي تتنقل بين الصفوف المتداخلة في رشاقة تستمع إلى النساء وتداعبهن ببعض حكاياتها التي كانت مألوفة لكثير منهن لكنها صاحبة طريقة خاصة في عرضها.
"أنا كنت بخاف حتى من خيالي، لكن بعد سنتين من اعتقال زوجي مبقتش أخاف من حاجة، أنا مش ببيع مخدرات يعني " كانت اجابتها واضحة عندما بادرتها فتاة بسؤالها عن مدى خوفها من بيع هذه المستلزمات وسط كل هذا التواجد الأمني.
في مشهد تضامني بدأ النساء اللاتي اشترين يحثون مثيلاتهن على الشراء من أم مريم حتى تنفذ بضاعتها وتذهب لبناتها الثلاث في شبرا الخيمة بما يكفي لسد رمقهن، في الوقت الذي اتفقت فيه أخت أحد المعتقلين على خلفية أحداث مجلس الوزراء على شراكة معها على أن تبيع الأكواب البلاستيكية إلى جانب ملاعقها.
بعدما باعت كل ما لديها من سلع جلست لترتاح على "مصطبة" أسمنتية لتجتمع حولها بعض النسوة المنتظرين منبهرين بجرأتها يسألونها عن حكايتها لأن زوجات السجناء على خلفية قضايا سياسية لم تعتدن على القيام بإجراء جريء من وجهة نظرهن كالذي تقوم به أم مريم.
"زوجي اعتقل منذ سنتين وحكموا عليه بـ10 سنين بتهمة تفجير مترو شبرا الخيمة على الرغم من أنه كان مسافر خارج البلاد نظرا لعمله في إحدى شركات السياحة وهو كان العائل الوحيد للأسرة ووالده عمره 70 عاما وليس له أخوة رجال" هكذا بدأت حكايتها وسط تعاطف النساء الملتفين حولها وتعابير وجوههن تحمل الكثير من التعاطف معها.
حاولت صاحبة الأعين المتقدة بالحماس أن تعمل أكثر من مرة للإنفاق على زيارات زوجها المعتقل التي تكلفها الكثير من المال لكنها لم توفق، وبينما تفكر في كيفية تدبير أمورها نظرت إلى الملعقة البلاستيكية القوية في حافظة الغذاء الخاص بابنتها الكبرى التي لم يتعد عمرها الثماني أعوام.
أخذت الملعقة وذهبت لتشتري مثلها لكنها لم تجدها بروحها الدؤوبة ظلت تسأل حتى وصلت إلى منطقة العتبة التي أرسلها البائعين فيها إلى المستورد لتشتري منه كمية بمبلغ 400 جنيه، باعتها في اليوم التالي بـ500 جنيه.
بعد يومها الأول من البيع، أخبرت زوجها المعتقل في سجن استقبال طرة في الزيارة التالية بما فعلته ليستنكر عليها فعلتها قائلا: ألم تخجلي من هذا، لم تتردد المرأة لتباغته بإجابتها الحاسمة من لا يعجبه أمري فليذهب إلى بناتي لينفق عليهن.
وسط كل هذا الضغط الذي تتعرض له المرأة العشرينية التي أتت منذ ثماني سنوات من بنها إلى القاهرة لتعمر مع رفيقها بيتا صغيرا ، تضغط عليها أمها لطلب الطلاق من رجلها المعتقل، إذ تقول لها لازلتي صغيرة وجميلة وهو لازال أمامه ثمان سنوات كيف ستقضينها في هذا الغم؟
لكن أم مريم حسمت أمرها يوم قررت أن تكون لرجلها عضدا وظهرا يستند عليه في سنواته العجاف وظلا يحتمي به من شمس أيامه الحارقة حتى لو كلفها هذا شبابها الذي تراه لن يذهب سدى مادام يقتات على الحب.
اعتدلت في جلستها لتلملم أشيائها ممزوجة بألامها الخاصة التي تخفيها وراء خفة ظلها ونقابها الأسود، ليتمسك بها النسوة في جزع قائلين: لماذا ترحلين ألن تزوري زوجك اليوم؟ تجيبهم بالنفي لأن زيارتها المستحقة يوم الأربعاء أما اليوم للبيع فقط فتذهب في خفة كما أتت لتطبع على وجوه النساء المنتظرات في الطابور لما يقارب الست ساعات بسمات خافتة ليستعدون بها للقاء ذويهم.