عزت النمر :

هناك حالة من الضبابية المقصودة للأزمة التي تعاني منها مصر, منشأ هذة الضبابية وذلك الغموض قد يكون ناتج من غياب التوصيف الحقيقي لطبيعة الصراع من مبدئه حتى لحظته الراهنة , وقد يكون ناشئ من كثرة التوصيفات لهذا الصراع بحسب اختلاف الثقافة او الأيدلوجية , لكن لا أحد يختلف أن هناك معركة تجهيل متعمدة وتزوير للوعي وتصوير الصراع في غير مسماه أو طبيعته ولا حقيقته الواقعية.

الحقيقة التي يجب أن نعود اليها جميعاً ونعلنها , أننا أمام صراع بين حق واضح صريح وباطل لم يستبقِ معه شيئاً من الحق , سواء نظرنا لما نعيشه بعين الديمقراطية أو من منطلق الهوية أو من باب مصلحة الوطن أو من قبيل حقوق الانسان أو حتى حفاظاً على حق أجيالنا القادمة في الحياة.
ثمة نوع آخر من الغموض يحيرنا يجب أن ننتبه له ونتناوله , هو كيف يفكر دعاة هذا الحق الواضح الصراح ؟ وما هي رؤيتهم لإثبات حقهم أولاً ثم الدفاع عنه وإقراره والانتصار له في نهاية المطاف؟!.

لا أحد يغيب عنه أن الانقلاب وصل الى مرحلة من الضعف والفشل جعلت كل الأطراف الداعمة له قبل المناهضة تتوقع انهياره في أي لحظة, على الرغم أن كتلة صلبة من أصحاب المصالح محلياً وإقليمياً ودولياً لم تكن ترغب في الوصول الى هذه اللحظة الحرجة ولم تكن تتوقعها.

على الجانب الآخر يرى البعض أنه على الرغم من عدالة قضية أصحاب الحق ومناهضي الانقلاب العسكري في مصر إلا أن الأقدار وحدها سبقتهم في الاجهاز على هذا الانقلاب الغشوم وطرحته أرضاً , في الوقت الذي لم يكن لقادة الحراك في ذلك ناقة ولا جمل , ولم تكن لهم بصمة اللهم إلا أن يخرجوا علينا بأننا لم نكل ولم نمل من الدعاء على السيسي والانقلاب وحكومته ومؤيديه .

لستُ بالكلية مع هذا الرأي معتبراً أن محدودية الخيارات وقسوة الظروف وكم التواطؤ عذر مقبول , فضلاً أن لهم دوراً غير منكور في الحفاظ على حيوية الثورة وحركة الشارع , ولست بطبيعة الحال ممن يهون من أثر الدعاء أو يقلل من أهميته.

موقف أحب أن اسجله بوضوح أنني أضم صوتي الى كل غيور متحمس وأقول لقادة الحراك وأصحاب الحق وأهل الشرعية حسبكم ما خدمتكم به الأقدار , وعليكم أن تتعدوا مرحلة انتظارها والتعليق عليها , وننتظر منكم أن يكون لكم دور ما عليكم أن تسلكوه : إما أن تعلنوه وإما أن نرى آثاره في واقعنا المشتبك.

تتمة هذه الأقدار وآخر هداياها كانت أزمة الطائرة الروسية, قدم فيها النظام باكورة غبائه في أبشع صورها , فكانت تداعياتها أن أحرقت مستقبل السياحة المورد الأهم في توفير الدولار وأوصلت مصر الدولة والنظام الى حافة الفشل الاقتصادي , وأفقدت الانقلاب جُل أصدقائه في المجتمع الدولي , أو على الأقل سببت لهم حرجاً شديداً في تواصل دعمهم اللامحدود أو في تبرير مزيد من جرائمه وبلاويه.

ثمة حقيقة أخرى لعلها تمثل أهم ما في المشهد ألا وهي كم الغضب المكتوم لدى قطاعات عريضة من الشعب المصري , يزداد كل يوم تحت ضغط سوء الخدمات وارتفاع تكاليف المعيشة وضنك العيش وقسوة الحاجة .

هذه الحالة من الغضب وفقد الانقلاب لهذه القطاعات العريضة التي كانت تُمني نفسها بالأمن والأمان تحت مظلة الجيش , وبحياة رغيدة حينما يكفلنا الرفاق الخليجيون, وبهناءة العزة والكرامة على يد زعيم الضرورة الذي سيفتح لنا خزائن الشرق والغرب .

ظلت الوعود التي أطلقها الانقلاب وَسَحَرته يقابلها أحلام وردية وأماني حالمة من القطاع الأكبر من شعب ظل ينتظر ويقاوم الحقائق ويتعاطى المهدئات والمكيفات ويستسلم لكل من يكذب عليه أملاً في مستقبل هانئ ولو غير قريب.

الآن انكشف الغطاء واستيقظ الجميع على كابوس هَطَل السيسي وهشاشة الجيش وسراب الدعم الخليجي وخدعة مؤسسات الدعم الدولي وزيف مؤتمرات الاقتصاد, ليتبين للشعب أن ساعتين من المطر هنا أو هناك كافيه لمسح كل هاتيك الأحلام والرؤى , وإثبات حقيقة واحدة لم تعد محل شك أن البلد تسقط, وأن على الشعب المصري ان يستعد لمواجهة المجهول , وأن الفقر والغلاء والضياع الذي يواجه الناس اليوم؛ ليسوا أكثر من مجرد نِعَم قد تكون في الأغلب الى زوال , وأن الأسوأ لم يأت بعد.
استكمالاً لقراءة راشدة للمشهد هناك العديد من الثوابت لا يجب أن نتناساها أو نتجاهلها أو نقلل من قدرها منها :
_    أن كتلة ما من الشعب المصري لم تتأثر بهكذا أحداث ولا تعيش أثارها ولا تتفاعل معها وستظل على موقفها السلبي من الانقلاب.
_    كتلة أخرى من الشعب لفسادها أو لطائفيتها أو لأسباب أخرى ستقف دعماً للإنقلاب مهما تجرعت من مراراته وسوءاته.
_    كتلة ثالثة هي مؤيدة للشرعية بدوافع مختلفة لا يمكن كذلك تجاوزها أو نسيانها أو التقليل من حجمها.
_    الجماهير الشعبية العريضة والكتلة الأكبر هي من تئن تحت ظرف الفقر والحاجة وليست لها ولاء حقيقي للنظام , وليست كذلك مشغولة بقضية مبدأ أو شرعية أو هوية, إنما هي مرتبطة بمصالحها اليومية , وهذه الكتلة العريضة محتقنة غاضبة من الواقع مسكونة بهواجس الخوف من المستقبل .
_    آخر ثوابت المشهد تجده على الجانب الآخر حيث لا ننتظر من اللاعبين الإقليمين والدوليين المؤيدين للانقلاب أن يتركوه يسقط إلا بعد ترتيب ما يحفظ مصالحهم في مرحلة ما بعد السيسي وشركاء عصابته , كما كان ذلك عند سقوط مبارك وهو غير بعيد .

أعتقد أن هذه اللحظة التاريخية من هذا الواقع المأزوم المشتبك تحتاج من دعاة الشرعية ودعاة إنقاذ الوطن وحماة مستقبله الى قراءة رصينة لهذا الواقع , ومن ثم بناء استراتيجية محددة قصيرة وطويلة الأجل للتحول من موقع المتابع الى دور المشارك واستهداف اقتحام المشهد وتحريك أدواته وانتزاع دور البطولة فيه.
لابد أن نتفق كذلك على أن الرهان إنما يكون على قدرتنا على تحريك الجماهير , وفي ذلك ينبغي التذكير والإقرار بأن طبيعة الشعوب ــ كل الشعوب ـــ لا تتحرك من تلقاء نفسها , وأنها لا تتحرك الا بعد كسر حواجز الخوف والإطمئنان للنتائج وبعد بشارات مؤكدة من كسر رموز القهر وتغييب وجوه الفراعين.

إذن واجب الوقت الذي يستلزمه الواقع يحتاج خطوات متتالية ودرجات تتزامن حيناً وتتابع حيناً حسب التعاطي مع الواقع ..

أول هذه الخطوات هو مخاطبة الجماهير الغاضبه بكل صور الخطاب والتأكد من شرح عمق الأزمة التي تعانيها وأظهار فشل الدولة في توفير الحاجات الأساسية , كما يلزم النفخ الحثيث وإظهار كارثية الأزمات التي نواجهها والتخويف من المزيد.

على ذات النسق التركيز على خيانة الوجوه الاعلامية التي تُخدر الناس وتغرر بهم وإظهار مدى كذبها وانتهازيتها ومسؤوليتها عن تجارة الوهم والدجل التي ساهمت فيما نحن فيه من كوارث .

التركيز كذلك على خطايا الانقلاب ونظامه في دعمه اللا محدود وعطاياه ورشاويه لشرائح الضباط من جيش وشرطة وشركاه الفسدة من القضاة.

هذا الخطاب يؤتي أثره ويحقق غاياته اذا ما استطاع الوصول الى الشوارع والحواري ودخل البيوت والمقاهي. وسيفقد كل أو جُل أثره اذا اكتفى بفضاء الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي وأن كانت مهمة إلا أنها تفقدنا قطاع كبير من الشعب لا يدري بها ولا بنا .

شرط آخر من شروط نجاح هذا الخطاب هو أن يتلبس لباس النُصْح والمُعَايشة والحرص ومشاركة الناس معاناتهم , وليس مخاطبتهم كنخبة أو معارضة أو حتى تيار اسلامي , فضلاً أن نقدمه في خطاب استعلائي من التوجيه والتربية أو التشفي والشماتة.

تلك خطوة أولى كلما نجحنا فيها ستعجل وتفتح المجال لما يليها من خطوات وستتلكأ آثارها كلما تفقد أسباب النجاح فيها.

الخطوة التالية وتلزم حينما يكون صاحب القرار قد اطمأن لمستوى الوعي ــ وإن شئت الدقة ــ لمستوى الاحتقان والغضب في قاعدة شعبية كبيرة .

حينئذ يكون على صاحب القرار تحديد أدوات الحسم واعتماد مساره واختيار طريقته ووسائله, وهذه الخطوة ليست كما يشاع باحتلال الميادين وهو الحل السهل الذي سيعطي للعصابة الحاكمة أن تزيد من كم الدماء بما يعيد جينات القهر والجبن لتهزم أي تلال من الاحتقان والغضب .

ذلك سيناريو يحتاج الى قيادة تملك الثقة في نفسها وتعرف إمكاناتها وتحسن قراءة الواقع وتأخذ زمام المبادرة وتحدد اللحظة المناسبة للقرار الصعب. قيادة لا تُشغل في حوارات جانبية حول اصطفاف مزعوم يجيد فيه البعض تفريغ الثورة من حقيقتها وحيويتها والالتفاف حول رموزها وأهدافها.

وعلى ذكر الاصطفاف فلا أعتقد أن عاقلاً يرفض دعوى ما للاصطفات أياً كان قائلها أو مطلقها. لكن إذ يسألونكم عن الاصطفاف .. فقولوا .. إن الشهداء تركوا وصيتهم وفيها أن الاصطفاف مكانه الشارع والثورة وإلا فهو .. الاصطفاف المكروه.

[email protected]
https://www.facebook.com/ezzat.elnemr.9