د. فتحي أبو الورد :
 
هالنى نقاش دار بين شباب وشيخ يقترب من الثمانين حول بعض المسائل الدعوية والقضايا والفكرية ، فوجدت تجاوزا لأدب الإسلام فى التعامل مع الكبير ، وتخطيا لأخلاقيات المسلم فى أدب الحوار والنقاش مع الآخر عامة ، ومع كبير السن بخاصة ، الأمر الذى يستوجب التنبيه إليه ، ومراعاة اللطف فى العبارات ، والرفق فى الألفاظ ، حتى وإن اختلفت معه فى الرأى ، وإن كنت ترى أن رأيه لا يصلح لزماننا ، مما جعلنى أصف هذا النقاش بأنه هراش لا نقاش ، والهراش فى لغة العرب هو التحريش والتقاتل ، كما جاء عند ابن منظور فى لسان العرب ، ومن المشهور فى هذا الصدد مايقال عنه : هراش الديكة كما جاء عند الجاحظ فى كتاب الحيوان .
ومما يؤسفنى أن هذا التطاول فى الحديث ، والتجاوز فى النقاش يتم تحت مظلة حرية التعبير عن الرأى ، وحق المعرفة والعلم ، لكن الذى لا يختلف فيه اثنان ، ولا ينتطح فيه عنزان ، والذى يصلح لزماننا ولكل زمان ، والذى يصبح لازمة لا مفر منها لمن يتصف بالخلق ، هو ألا يتجاوز المناقش حدوده فى النقاش ، وألا يؤذى الآخرين بحدة ألفاظه ، وخشونة أسلوبه ، وغلظة عباراته ، وتجهم وجهه ، وهذه أدبيات ليست محل جدال أو نقاش ، وإلا فلا حاجة إذن للنقاش من أصله .
وقد ورد فى أدب النبوة فى الحديث الصحيح الذى رواه الترمذى أن النبى - صلى الله عليه وسلم – قال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا ". وفي رواية لأبي داود: " ويعرف حق كبيرنا " .
هذه أبجديات يتربى عليها الصغار والناشئة منذ نعومة أظفارهم فى البيت والمدرسة ، وكانت كتب التربية الإسلامية ونحن تلاميذ فى المرحلة الابتدائية تعج بمشاهد وصور تدعو إلى احترام الكبير ، والشفقة عليه ، من أمثلة : الطفل الصغير الذى يأخذ بيد الكبير ليعبر الطريق ، أو الطفل الذى يحمل عن الكبير أغراضه ليوصله إلى داره ، أو الطفل الذى يناول الشيخ كوبا من الماء تقديرا ورحمة وشفقة .
هذا غراس التربية الإسلامية فى نفوس الناشئة منذ الصغر ، يوجهنا إلى ذلك أدب النبوة فى مثل حديث أبي موسى الأشعري، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط ".رواه أبو داود وحسنه الألبانى .
قال الأمير الصنعانى فى التنوير شرح الجامع الصغير : "من إجلالكم الله تعالى أن تكرموا ذا الشيبة المسلم ؛ فتعظيمكم إياه وتوقيره إجلال لله تعالى " .
وقال الطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح : " إن من إجلال الله " أي من جملة تعظيم الله تعالى وتوقيره أن يكرم موضع وقاره وهو شيبة المسلم .
ومن مظاهر إجلال الله تعالى كما قال الإمام المناوى فى فيض القدير شرح الجامع الصغير : " تعظيم الشيخ الكبير صاحب الشيبة البيضاء الذي عمره في الإيمان ، وتوقيره في المجالس ، والرفق به ، والشفقة عليه ".
ومما روته السيدة عائشة - رضى الله عنها - : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم " .
وقد كان لأمنا عائشة تطبيق عملى فى ذلك ، كما روى أبو داود عن ميمون بن أبي شبيب ، أن عائشة مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة، فأقعدته، فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزلوا الناس منازلهم " .
ومعنى الحديث بيّنٌ فى إيتاء كل ذى حقٍّ حقَّه، وتبليغه منزلته فى كل باب .
لا خير فى طالب علم ، ولا صاحب دعوة ، ولا صاحب قلم إن لم تكن هناك خطوط حمراء ، لا يجوز تجاوزها مع كبار السن ، وأهل الفضل ، وأهل السبق ، مما يطلق عليه فى أدبيات المسلمين الأخلاق .
هل يصح أن نتخطى هذه الأبجديات باسم حرية التعبير عن الرأى ؟ وهل يليق أن نجرح مشاعر الآخرين ، ونؤذى نفوسهم تحت بند الاختلاف فى الرأى ؟ وهل يمكن أن يتحقق خير ، أو يرجى نصر ، ونحن نتعبد إلى الله بإهانة الكبير ، والإساءة إلى أصحاب الشيبة ؟ .
هذا تلبيس من إبليس ، يجب أن ننتبه إليه ، ونبرأ منه ، ونتوب إلى الله تعالى من قلة الأدب ، وسوء الخلق ، وإن توهمنا أننا ندافع عن الحق ، أو ننصر الدين ، أو نمارس حقا مشروعا يسمى التعبير عن النفس ، فمن المماحكة والمغالطة أن ندخل إهانة الكبير ، والإساءة إلى ذى الشيبة تحت بند حرية الرأى أو التعبير عنه