عزت النمر :

اكتسبت الإنتخابات المغربية التي جرت مؤخراً أهمية بالغة تدعو الى التوقف عندها وقراءة رسائلها ودراسة نتائجها وسبر أغوارها .
نتيجة انتخابات المغرب لا يمكن قراءتها خارج السياق الحالي وذلك الضباب الكثيف حول ما يمكن أنه نسميه "خريف الربيع العربي " , وما أفرزه من انكسارات وشماتة طالت ما أسموه "الاسلام السياسي" , الأمر الذي حد بالبعض أن يدعو أصحاب هذا الإتجاه الى لملمة أوراقهم ومغادرة الواقع والانزواء في ثنايا التاريخ ونسيان حلم المشروع النهضوي كوجه إسلامي صبوح.

الانتصار الكبير لحزب العدالة والتنمية في المغرب فاجأ الجميع حيث ضاعف عدد المقاعد التي حصل عليها في 2009 أكثر من ثلاث مرات، وقفز ما حققه من مقاعد من حوالي 1500 مقعد في 2009 إلى 5021 مقعد في الانتخابات الأخيرة.

ثمة تغير نوعي في الانتصار الذي أحرزة الحزب الاسلامي , فالعادة جرت على أن الاسلاميين يحرزون نجاحاتهم في الريف والقرى والبوادي في حين تقل حصيلتهم ويضعف تأثيرهم في في الحواضر والمدن, لاعتبارات التأثير الثقافي والإعلامي الضاغط والكاره لهم, فضلاً عن حيوية وتركز العلمانيين وأصحاب المصالح في العاصمة والمدن. 

هذه النقطة تحديداً تعدتها الانتخابات المغربية حيث كان الانتصار الساحق للحزب العدالة والتنمية الإسلامي في المدن على حساب الريف والبوادي.

حزب العدالة والتنمية استطاع الحصول على أكبر عدد من المقاعد في المدن والحواضر وأطاحوا بمنافسيهم التقليديين, وانتزعوا مجالس محافظات أغلب المدن الكبرى، كالدار البيضاء والرباط وفاس وأغادير التي ظلت حتى الأمس القريب حكراً على قادة الأحزاب التقليدية في تطور نوعي يجب أن يُعاد قراءته ويُفسر أسبابه.

ثمة أمر آخر يروج له البعض وهو أن الاسلاميين ينجحون كثيراً في المعارضة, لكنهم يفقدوا بريقهم ويستهلكوا شعبيتهم إلى حد كبير في السلطة والحكومة, حتى هذا الرأي أطاحت به الانتخابات المغربية في نسختها الأخيرة.

السنوات الأربع التي قضاها حزب العدالة والتنمية في السلطة لم تحافظ فقط على شعبيتهم وتأييد الشعب المغربي لهم, بل أنهم استطاعوا أن يضاعفوا هذه الشعبية وذلك التأييد الى ثلاثة أمثالها بحسبة ما حققوه من مقاعد في الاستحقاق الاخير. 

ما سبق يبعث برسالة واضحة أن السياسة تعتمد على الممارسة والفعل وليست مسلمات ثابتة تكفل ديمومة النجاح أو استمرارية الفشل لأحد.

وأن الانتصار والتمكن السياسي له أسبابه التي يجب أن يقرأها ويتابعها الجميع رغبة في كَرَةٌ ناجحة نرجوها ونتمناها للحركة الاسلامية في شقها السياسي.

أعتقد أن الزعامة أحد أهم أسباب النجاح السياسي في تجربتنا الماثلة أو في عامة الشأن السياسي،  شريطة أن تحسن هذه الزعامة خطاب الجماهير دون الانزلاق الي مهاترات جانبية, وتجيد كذلك الهروب من ما تستوجبه زهوة السلطة من التصادم مع مراكز القوى فتحدد متى وكيف تواجه ومتى توادع وعلى أي أرضية وفي أي موقع.

قدرة الزعامة على إدارة الصراع أحد المقدمات طبيعية للنجاح والتمكن وغيابه يؤدي الى الفشل والسقوط, ولعل نموذج بن كيران كزعيم استطاع بكثير من الحنكة والمناورة أن يجنب حزبه وتجربته مواجهة وصدام مع الملك ليست في صالحه ولا في صالح الحزب ولا التجربة ولا حتى في صالح بن كيران نفسه،  رغم الألغام والحُفر التي وُضعت لدفعه الى ذلك دفعاً واستحقت منه اثبات الوجود في مواجهة سلطة الملك , فأجاد الرجل حينما أحتفظ لنفسه وحكومته في ميدان قوته مفوتاً مخاطر أرادها له أعداءه وكارهوه.
 
على ذكر الزعامة الحقة والقادرة على صنع وادارة النجاح ومداولة الأمل وصيانة الواقع وتنمية المقدرات . فانه يحسب لعبد الإله بن كيران أن النتائج التي تحققت والتي فاجأت كل المراقبين للشأن المغربي كان يبشر بها ويتوقعها ويؤكدها بمنتهى التفاؤل من قبل الانتخابات. 

تصريحات بن كيران المتفائلة اعتبرها المراقبون ليست أكثر من خطاب تحميس قبل معركة تستحق هذا الخطاب , الا أنهم فوجئوا ببعد نظر الرجل وأنه أحسن قراءة الواقع والتحديات , وهزمت شعاراته  المتفاؤلة كل قراءات المحللين ونبؤاتهم ليرفعوا جميعاً له القبعة وليشهدوا له بــ"الحرفنة" السياسية وليهنئوه على انتصاره المستحق وفوزه المكين. 

الزعامة جزء أصيل من النجاح السياسي والتمكين لكنها لا تؤتي أُكُلها هكذا منفردة ما لم تستند الى جهاز إداري ومنظومة متكاملة تملك الرؤية شاملة تستوعب المعوقات والتحديات بأهداف محددة وفق جدول زمني متدرج في منهاج كامل واضح محدد المراحل والخطوات.

هذا هو الشق الثاني وشريك النجاح في الانتصار الذي حققه رفاق بن كيران في المغرب والذي يؤصل الى حقيقة تُنادي الاسلاميين في كل موقع أن النجاح المبتغي والتمكن المرجو لا يأتي بالبيانات ولا بالهتافات ولا بحشد الأنصار والأتباع ولا بالعواطف والحناجر ولا حتى بالبذل الكثير في غير اتجاه , انما ثلاثية أركان النجاح وقيام النهضات انما تكمن في زعامة قادرة وقاعدة مبصرة ومنهاج قويم.

ثمة نقطة لابد من إثباتها وهي أن السنوات الأربع التي قضاها بن كيران في السلطة لم تكن نزهة , وأن الحزب الإسلامي عانى من مواجهة شرسة من كارهي التيار الاسلامي ومن أصحاب المصالح وسدنة الفساد فضلاً عن القصف الإعلامي المتواصل سواء من منصات الاعلام الرسمي أو من قاذفات الاعلام الخاص الذي تملكه شبكة أصحاب المصالح في المغرب.

هذا الأمر يؤكد على نجاح حزب العدالة والتنمية في التعامل مع مواجهات خصومة ومناكفاتهم له ولم يفرِّط في حاضنته الشعبية واستطاع تنمية كتلته الانتخابية وأحسن الاستثمار في جماهيريته , وهي رسالة على الحركة الاسلامية أن تستوعبها مفادها أن الدعم الشعبي والالتفاف الجماهيري يمثل حجر الزاوية وقطب دائرة الهم السياسي , وان التفريط فيهما أو التنازل عنهما انما هو انتحار وفناء لا يجدي معه عذر أو ندم .
ثمة نقطة لابد أن يدركها الاسلاميون ويستوعبوها ويعتمدوها وتضاف الى ما سبق هي أنه من الحكمة والبصيرة ألا تنزلق الى قرار أو اختيار تحت ضغط العاطفة أو هتافات الأتباع ومناشدات الجماهير واستفزازات الساسة , ولكن أن تختار من البدائل من تملك أدوات الحفاظ عليه وتنميته وصيانته. 

لتفكيك هذه النقطة نُذَّكر بأن حزب العدالة والتنمية في المغرب جاء عقيب الحراك الذي اشتعل إبان شرارة الربيع العربي في 2011 , وقد أراد البعض داخليا واقليميا أن يحذو المغرب وقادته ورموزه حذو الربيع العربي لتضاف المغرب الى ثورات الربيع العربي , إلا أن حزب العدالة والتنمية وزعيمه بن كيران إختاروا البديل الأهدأ لكنه الأصوب , وكانت حكمة منهم أن يديروا الحراك من قاعدة المصلحة لا من قاعدة العاطفة وجعجعة الواقع والظرف التاريخي , واستطاعوا الاستفادة من الربيع العربي ليأخذوا فرصتهم وينطلقوا بها ويديروا مفردات واقعهم بما يجعلهم اليوم في مشهد الاستقرار والنجاح والمباركة , في حين أن من ذهبوا وراء العواطف وانجروا الى مجارات الهتافات واستجابوا لنداء الحناجر نُصِبْت لهم بعد أعوام أربعة سرادقات العزاء واستقبلوا مظاهر الأسى وناحت عليهم النائحات.

لا أحد يقرأ هذا الدروس على أنها لمز في الواقع المصري أو في رموزه من أسود جماعة الاخوان المسلمين وقادتها في مصر , فليس الى هذا الباب أقصد , وإنما هي دروس عامة يجب أن تقرؤها الحركة الاسلامية وتضعها في حقيبة وعيها , ومن الانصاف مراعاة الظروف والفوارق المذهلة بين الحالة المصرية والمغربية سواء في مفرداتها وطبيعتها وثوابتها التاريخية وكذا مستوى العداوة والتربص بكل منها داخلياً وخارجياً.
حقيقة أُحب أن أسوقها وأبشر بها أنه رغم خريف الحراك العربي وضبابه الكثيف  فإن الشعوب مازالت تثق في الحركة الاسلامية ورموزها وقادتها , وأنه علينا ألا نفقد ثقتنا في شعوبنا والتفافها حول الحل الاسلامي تحت ضغط أقلية موجهة , علا صوتها لظروف اللحظة وتَمَكُّن البغي وحالة القهر التي لا تسمح الا بظهور أمثال هؤلاء.
 
آخر هذه الرسائل التي يجب ان تتلقاها الحركة الاسلامية أن الانتخابات في واقعنا العربي ليست نهاية المطاف وانما هي مقدمة لما أرادته الحركة الاسلامية بنفسها فإن هي استعدت الاستعداد الكامل وعياً وتخطيطاً وقراءة ورؤية وأعداداً فستجني من نتائج النتخابات مزيداً من القدرة والتمكن, وأن التخطيط لإدارة صراع طويل المدى يبدأ من نقطة استلام السلطة أهم بمراحل وأصعب وأشق من مجرد حراك عاطفي أيدلوجي ينتهي بفوز بالصندوق يسٌر الصديق ولا يسوء العدو.

مباركة واجبة لبن كيران ورفاقه وليعلموا أن المسار طويل والمعركة لم تضع أوزارها بعد , لكنها خطوة يستحقوا عليها التهنئة على ما حققوه , ولهم عميق الإمتنان والشكر عل إعادة الثقة في رواد المشروع الاسلامي.

أعتقد أنها رسالة جادة ومعلم على طريق الحركة الاسلامية وأنصار مشروعها لاستكمال عدتهم وهي في نفس الوقت بشارة نحن في حاجة اليها تبشر بالنجاح الوشيك للاسلام الحاكم في مشرقنا العربي رغم واقعنا الأسيف.
https://www.facebook.com/ezzat.elnemr.9